سقوط أو إسقاط النخبة

أربعاء, 2014-08-27 23:36

بمجرد اندلاع شرارة ما يسمى بالربيع العربي انطلقت صيحات النداء الباحثة عن المثقف التائه وسط خارطة خالية من ملامح الطريق ليستبطن ويحلل ما يجري على الأرض، وليقترح ماهية الخطوة اللاحقة. على اعتبار أنه الشخصية الرمزية التي تمثل حداثة العصر. وبالنظر إلى انتمائه إلى شريحة تتربع على القمة التوجيهية للمجتمع. أو ما بات يُعرف بالإنتلجنسيا. 
وبالفعل شاهدنا على الفضائيات مثقفين من تونس التي كان لها السبق في تلك الموجة، لم نكن نحلم بإمكانية خروجهم من الكتب والأكاديميات إلى أرض الواقع. وقد قدم أولئك الذين عرفناهم وتتلمذنا على أفكارهم منظومة من القراءات الواعية للحدث. حيث كانت ملامح الثورة في تونس ثقافية بامتياز. بكل ما تلوح به من عدالة وشراكة سياسية وتعددية وموت أكيد للديكتاتورية ورديفها السلفي.
ومع انفجار الوضع في ليبيا صارت الجماهير تصرخ وتطالب المثقفين الليبيين بمواقف صريحة من الصراع. حيث صارت تسمي المثقف بالإسم، نتيجة وجود ميثاق قراءة أصيل وعميق بينها وبين ذلك المثقف المصنّف في خانة النخبة لتقيس المسافة بينه وبين الطاغوت السياسي. وهو الأمر الذي تكرر في مصروسوريا والمغرب والبحرين وبقية دول الخليج التي يُنظر إليها عادة كمواقد خامدة، خالية من الثقافة والفعل الثوري. 
وفي ذلك المنعطف التاريخي، أجرى المثقف العراقي مراجعة شاملة لمنظومته من النخب التي خذلت قوى المجتمع المدني بتحالفاتها مع الأحزاب الطائفية وانهزامها أمام الاحتلال الأمريكي وممثليه من الحكام الجدد الذين جاؤوا على ظهور الدبابات فيما أُصطلح عليه حينها بالمارينز الثقافي. فيما بدا حالة من اللواذ بالثقافي لمقاومة ظواهر العنف والتديُّن المتمادية.
ولكن هذا الظهور الوقتي للنخب الثقافية في واجهة المشهد لم يستمر طويلاً. حيث تم تغييب المثقفين الحقيقيين لصالح طابور من الإعلاميين المنتفعين، وفقاعات العاملين في المنظمات اللا حكومية المنتسبين زوراً إلى قوى المجتمع المدني. فيما هم يمثلون من يُصطلح على تسميتهم بإمبرياليي الفضيلة. إلى جانب فصيل من اللاهوتيين الذي تلبسوا لبوس المثقفين وقدموا أنفسهم كنخبة ثقافية فاعلة. 
لقد احتشد أولئك في حلف غير مقدس. وركبوا الموجة بالتحالف مع القوى السياسية التي تريد الإبقاء على أوضاع التخلف والهمجية والرجعية. وصاروا ينادون بسقوط النخبة، وبروز عصر الجماهير. وبالفعل بدأت تلك الجماهير الساخطة تؤثّم المثقفين وتسقّطهم وتجرّمهم وتخوّنهم من خلال ما سمّته بقوائم العار. مقابل بروز شريحة انتهازية من أشباه المثقفين الذين لعبوا دور نجوم المرحلة. حيث تحولوا إلى ضيوف دائمين على الشاشة يمارسون التشاتم ببذاءة وسطحية على الشاشات.
ومن الطبيعي أن يتم إخراس النخبة والتنكيل بها لأنها في الأصل نتاج بيئة فكرية علمانية ليبرالية أو دنيوية بمعنى أدق وجامع. مقابل صعود المثقف الديني بمعناه اللاهوتي. بالنظر إلى أن أجواء ما يعرف بالربيع العربي كانت وما زالت ذات طابع ديني غيبي. تتحكم فيها سطوة الكتب المقدسة والمساجد. وهو الأمر الذي يفسر الغياب الفادح للنخبة من الفضاء الإعلامي ومن المشهد الحياتي. وكأن الإنسان العربي صار على موعد مع بروز انتلجنسيا ذات طابع كهنوتي لديها القدرة على انتحال صفة ودور ووظيفة المثقف وطرده من مواقع التأثير. وذلك بتحالفها مع مفاعيل السلطة واللعب على غرائز الجماهير.
من ذلك المكمن صرنا نسمع دعوات سقوط النخبة عبر أسماء كانت مصنّفة في نادي المثقفين المصطفين. وكأن ذلك الطابور من المثقفين الذين أعلنوا انحيازهم للجماهير بغوغائية فائضة، وخروجهم على مستوجبات الثقافة النخبوية قد قرروا وضع المثقفين التنويريين في خانة الإتهام ووصمهم بالكهنوت الثقافي العاجز عن الفعل والتأثير. وهو أمر يخالف التحليل السوسيولوجي لشروط ظهور المثقف. فالمثقف الحقيقي لا يتولد ولا يتجوهر خطابه إلا في المنعطفات التاريخية. ويرتبط ظهوره بموجات الحداثة والعلمانية والتحولات السياسية الكبرى التي تأتي بالحقوق واللافتات المدنية ونزعات التنوع والتعدُّد. ويعمل في المقام الأول على تفكيك العقل اللاهوتي. وهذا هو منطق وسجل الثورات على مر التاريخ.
ولتفكيك شعار ( سقوط النخبة ) المهيمن على المشهد لا بد من الإقرار بشكل مبدئي أن تساقط من طرحوا أنفسهم ضمن هذا السياق لم يكن تهاويهم في جانب واحد فقط كما يشاع عن الذين استطابوا النوم في سرير السلطة. فقط ارتمت بعض الأسماء في أحضان الحركات الأصولية المتطرفة المستنبته في حضانات الإمبريالية والإستعمار. تماماً كما فضلت أسماء أخرى الإبقاء على تحالفاتها مع الأنظمة الديكتاتورية. 
على هذا الأساس المهترئ رهن المثقف الحداثي السوربوني خطابه للجماعات الإرهابية المسلحة مقابل مثقف مخنوق ببزته ونبرته العسكرية. وبالتالي فإن ذلك التردي الأخلاقي الفكري وعطب الضمير الثقافي جعل من المثقف الذي يفترض أن يكون علامة تنويرية وإصلاحية إبان الحروب الدينية وقوداً للطائفية، وأداة بيد القوى الكبرى التي تحركه كالدمية البكماء في لعبة أُمم جهنمية.
لقد كشفت الأحداث عن مثقفين سلفيين متدثرين بقشرة حداثية. يريدون نقل المعركة من مواجهة القوى الإستبدادية الظلامية إلى التنكيل بفئة من المثقفين. والأخطر أنهم قدموا أنفسهم للجماهير كأنبياء للحظة الثورية. فمن المنظور التاريخي انطلقت حركة التحرّر الجديدة في العالم العربي من منطلقات دنيوية لتوسيع هامش المشاركة السياسية وإرساء تقاليد التعددية الثقافية التي تولّد بالضرورة حالات من التعدد السياسي والديني، وترسم مديات من التحول الديمقراطي. ولكن خطابات التسقيط المنبعثة من بعض المثقفين توحي بخطة مبيّتة، أو قصور في النظر والتحليل، للإخلال بمشروع العقد الاجتماعي العربي. لأنها تختزن ركاماً هائلاً ومزمناً من الكراهيات والارتباكات والتناقضات والنكوصات.
هكذا تم طرح شعار( سقوط النخبة ) وتبنيه ثقافيا كأيديولوجيا مضادة للحد من أثر الثقافة ووظائفيتها. كما تم تقديمها كبناءات فكرية ناقدة يُراد منها توطين النزعة العقلية في تناول حدث الإنتفاضات العربية. فيما هي حلقات ضاغطة للإحكام على العقل والإنسان العربي ومنع تدفق الأفكار التنويرية بمعناها التاريخي إليه. لصالح جماعات فكرية متواطئة مع مفاعيل السلطة، تجيد استخدام تلك الأيدلوجيا. وهو الأمر الذي يفسر الترديد الببغاوي لمقولات أولئك التي تجزم بأن قوة الانتفاضات تكمن في كونها بدون رؤوس مفكرة.
أن المناداة بسقوط النخبة يمنع ولادة خطاب تاريخي بكل تداعياته الثقافية والقانونية والأخلاقية، يتواءم مع مستوجبات اللحظة. وهي جزء من مقولات السلطة المحمولة عبر مثقف سلفي متنكر في صورة مثقف طليعي. يؤدي دور المعطل لانبثاق ونمو العلمنة في حياة الإنسان العربي. وتلويث منابع ذلك المكمن. وهو الأمر الذي يضع ما يسمى بالربيع العربي في حقل الرؤية مباشرة، ما بين مثقف مهمته إنتاج الخطابات الدنيوية بكل معانيها الواقعية، مقابل مثقف ديني يريد تمكيث الأفكار الغيبية، وإعادة تشييد الحلف مع الحاكم باحتيالات ثقافية مكشوفة.
لم تسقط النخبة، إنما تم ركنها في الهامش. فهي ممنوعة من الظهور الإعلامي. ومهدّدة بالجماعات الإرهابية. ومقموعة بقرار سياسي. حيث يدافع المثقف المعاد إنتاجه عن مكان إقامته داخل المؤسسة. ويستبسل في الذوذ عن لاهوتيته. فيما يُحارب المثقف المستنير الذي يحاول جاهداً أن يُعلمن كل ذلك الركام من اللاهوت، لكي يشيد أركان بناءاته الفكرية المستلهمة من وقائع اللحظة وحرقة التجربة.
إنها حرب لم تبدأ على إيقاع الانتفاضات الحاصلة الآن. إنما هي استكمال لتصفيات تاريخية تأخذ أشكالاً وأبعاداً مختلفة في كل مناسبة. ففقهاء السلطان ومثقفوه لا يتحملون وجود مثقف منشق ناقد يكشف ضحالتهم وانتهازيتهم في استقطاب الجماهير الساخطة. وهم يعرفون تماماً أن المثقف بالمعنى الفاعل والحيوي للكلمة، لا يتولّد إلا في عصر أنوار. وهو الفضاء الذي يعمل القائلون بسقوط النخبة على تبديد أي إمكانية لتأسيسه.
*كاتب سعودي
[email protected]

محمد العباس