فضــائــح الاستـرقـاق السـيـاسـي!

جمعة, 2014-08-29 10:51

لاشك أن استصحاب عقلية البداوة والترحال كانت، وما زالت، جزءاً لا يتجزأ من ثقافتنا الموريتانية، حيث ما فتئنا نستبطنها في لاشعورنا الجمعي، ونتقمصها وجدانياً ونتعاطف معها رمزياً في سلوكنا الشخصي، ونشاطنا الاجتماعي، على حد سواء. وقد ظلت هذه الثقافة تجد دائماً طرقاً مباشرة، أو غير مباشرة، للتعبير

 عن نفسها، في مختلف مظاهر الحياة والاجتماع السياسي في بلادنا،  حيث نرى تجلياتها الكثيرة تتزاحم في الشوارع فوضىً وإهمالاً صميمين ثاويين في عقلية من لا يألف الاستقرار.. أو المقام في الدار... ونراها حتى من شكل المارة وهم يسيرون زرافات لا وحداناً، وجماعات لا أفراداً... ونراها في العمارة باختراع الفيلا- الخيمة، أو العريش- الخيمة... إلى آخر مظاهر ترييف الحضر الأخرى الكثيرة، المعروفة في مدننا لدى العامة والخاصة، بما يغني عن الاستطراد.

ترحال.. في السياسة

ومن مظاهر ثقافة البداوة في الاجتماع السياسي وفي التجربة الديمقراطية الموريتانية، أو إن شئتم في البدوقراطية الموريتانية، كثرة الترحال السياسي، حيث ينتخب النائب عندنا في حزب، وبعد الوصول إلى البرلمان يقع تحت إغراءات ومساومات، بما قد يدفعه للانسحاب من حزبه الأول والانتقال إلى حزب ثانٍ، وربما ثالث، إلى أن يقر به القرار أخيراً في حزب السلطة الحاكمة في الغالب، حيث مظنة أن يكون الثمن المقبوض والرزق المقسوم أكبر، وأكثر فائدة للجيب، حتى يأتي ما في الغيب!

وقد لا تكون ثمة حاجة للإفاضة في أسباب تفشي هذه الظاهرة، المستندة على المكون الثقافي واللاشعوري المتأصل وفق ما قال شاعرنا الكبير "رحلنا كما كان آباؤنا يرحلون"... ولكن لعل من أعمق أسبابها عدم وجود أحزاب أو أطر سياسية تاريخية حقيقية في بلادنا، فكلها أحزاب جديدة في النهاية، وأقدمها يعود إلى تسعينيات القرن الماضي. ويكاد يشترك معظم أحزابنا في الفشل وغياب الرؤية وانعدام الخيال السياسي، وهي في الغالب إما أحزاب سلطة تتغذي على إمكانيات الدولة وتنخرها من الداخل... أو أحزاب لوبيهات فساد وزمر راغبين في السلطة، وأكلة عيش، أو أحزاب وراثة، أو أحزاب عائلات، وأحزاب ذات إسناد عرقي أو فئوي، وأقل القليل منها أحزاب إيديولوجية بعضها بمثابة تمثليات لقوى إيديولوجية خارجية. والحاصل أن انتماء منتسبي معظم هذه الأحزاب والمنتخبين باسمها غالباً ما يكون شكلياً، أو مرحلياً، وفقاعة، غير نابعة عن قناعة، ولذلك يسهل قلب المجن لها والانسحاب عنها متى ما توافرت مصلحة شخصية، أو إغراءات مادية.

الحُر يذهب حيث شاء

وفي مواجهة ظاهرة الترحال السياسي هذه، وخاصة في عهد النظام الحالي، ظلت قيادات كثير من الأحزاب التي انسحب عنها نوابها ومنتخبوها ترفع عقيرة الشكوى، وتشتكي لطوب الأرض من هذه الظاهرة، مطالبة بوضع تشريعات وقوانين تمنع الترحال السياسي بشكل قاطع، وهو ما توافقت عليه الطبقة السياسية في النهاية. ومع أن الفكرة وراء هذا المنع قد تبدو لأول وهلة وجيهة، إلا أن فيها عواراً سياسياً وحقوقياً كبيرين، حيث تفقد الإنسان المنتسب للحزب فرصة تغيير موقفه أو قناعته، أو التصرف في ذاته وخياراته بحرية، هذا مع أن من أبسط مبادئ الحرية نفسها أن الإنسان الحر يذهب حيث شاء، حساً ومجازاً، ودون وصاية أو حجر من أي كان. وهذا السلب لحرية الإنسان وتصفيده بقيود وأغلال الحزب، ومنعه من الانتقال عنه، فيه نوع من التعدي على عناصر أصيلة من مفهوم الديمقراطية والحرية نفسها، بل من حقوق الإنسان، والحقوق القانونية والدستورية النافذة. وهذه الصنمية الحزبية الملزمة بالانتماء، طوعاً أو كرهاً، والسالبة للحرية حيْفاً وافتئاتاً، هي ما عبر عنه عنوان التدوينة أعلاه بمفهوم "الاسترقاق السياسي"!

بدائل منع الترحال

ولكن ما لم يضعه مشرعو منع الترحال السياسي في الحسبان هو أن المنتخب أو الناشط الحزبي الانتهازي، أو بائع الضمير، أو حتى الإنسان المحتاج، إن مُنع عليه الترحال السياسي العلني، قد يمارس أيضاً خفية نوعاً من ترحال الظل المسكوت عنه، فيتحول إلى حصان طروادة داخل الحزب، بحيث يصبح مزدوج الولاء بين حزب الانتماء القسري، وحزب الولاء المغري! وبهذه الطريقة يمكن لحزب السلطة، أو النظام، أن يخلق له خلايا نائمة من المنسحبين غير المعلنين داخل كل حزب معارض.

ومرة أخرى يتفاقم نزيف الفاقد من الأحزاب المعارضة كالسابق، ولكن يقع ذلك، هذه المرة، بقليل من الشرف الشخصي والشجاعة السياسية. كما يستطيع المنسحبون عن أي حزب أو جسم سياسي الانفصال بذواتهم كمستقلين سياسيين، وهذا حق دستوري أيضاً مشروع، وإن كانت ثقافة الاحتكار السياسي في بلادنا منعت كذلك ترشيح المستقلين. ومن هنا فربما كان الأوْلى هو النص في تشريع صريح على منع الترحال السياسي إلى حزب السلطة الحاكمة تحديداً، وترك باب الترحال مشرعاً بين بقية الأحزاب، تسهيلاً لإعادة تدوير واسترزاق نفس رموز وبيادق الفساد والاستبداد التي تكاد تحتكر المشهد السياسي والحزبي في بلادنا منذ زمن بعيد. وهي كما يعرف الجميع، نفس البيادق... والوجوه.. والأقنعة.. والأسماء... ولا جديد تحت السماء.