مراثي المثقف العضوي

أربعاء, 2014-10-22 20:46

ماذا يعني المثقف العضوي؟ هل هو صورة مضخمة للمثقف الملتزم والجاد والنقدي والثوري، أم هو مثقف الاشاعة، او هو مثقف الايديولوجيا؟ وهل يمكن ان يكون مثقفا ملفقا او استعراضيا؟
احسب ان كل التسميات جائزة، وذات استعمال مباح، لاسيما وان هذا المثقف ينتمي الى فضاءات تاريخية وسياسية وايديولوجية وصراعية مختلفة تماما، وان إعادة انتاجها في ظل ظروف تهيمن فيها المركزيات القرابية والعصابية والحزبية والدينية يفقدها الكثير من ضرورات التوصيف، وفاعلية الوظيفة..
الحاجة الى المثقف البطل، او المنقذ او القائد هي اللزوميات التي تحرض على الحديث عن استدعاء مثل هذا المثقف، اذ نجد انفسنا ومنذ عقود- وبعد انهيار الكثير من المركزيات والسرديات الكبرى- امام صورة شوهاء للمثقف الموهوم والمتعالي، او المثقف الحزبي اليميني او اليساري، او صورة مضخمة للمثقف الديني او المثقف العلماني، وطبعا فان هذه الصور/ الاقنعة التي يلبسها المثقف تفتقد كثيرا للواقعية والمهنية، وللسياق الضروري الذي يمكنه القبول بتشكيل صورة (عائلية) لهذا المثقف خارج المرجعيات الحزبية والقدسية التي ظلت تهيمن على تسويق صورة المثقف.. 
غياب النسق المولد هو اكثر مهددات تغييب المثقف الفاعل والمتفاعل، لان النسق يعني هنا النظام الحاكم، ويعني القوة الصيانية، مثلما يعني وجود العوامل الكفيلة باسناد اي عملية او برنامج ثقافي يمكن ان يتصدى لصناعة مثل هذا المثقف، ولعل الاخطر من ذلك ان الكثير من معيقات القبول الثقافي هو طبيعة التعالق الخطير بين النسق والسلطة، باعتبار السلطة هي القوة التاريخية التي تملك الثروة والقوة والعنف والبرنامج، وان اية وظيفة خارج هذا الامتلاك ستكون ركضا في الفراغ، ونزوعا الى صناعة المزيد من الاوهام.
السلطة في العراق ومنذ تأسيس الدولة الاولى عام 1921 كان سلطة للنخبة التجارية والدينية، وفي ما بعد للنخب العسكرية ذات المزاج العثماني والانكليزي، وصولا الى شيوع ثقافة العسكرة ذات المزاج الثوري والانقلابي والطائفي.. وهذا التحديد وضع صورة متخيلة للمثقف الذي يملك الاهلية للاندماج في هذه السلطة، وربما وضع اسيجة معينة لتحديد وظيفة المثقف، وان الخروج عنها هو التمرد والخيانة والمروق، وهو ما اكده ايضا ت. س اليوت في توصيفه للمثقف الذي ينحاز اليه، والذي يشيؤه داخل منظور طبقي محدد، وعبر انحياز لمشروع النظام الاجتماعي الذي تكرسه التقاليد الرعوية للدولة والطبقة والكنيسة وغيرها، وحتى المثقف الاكاديمي في توصيف اليوت هو المثقف المناهجي الذي يكرس قيم التقاليد الارستقراطية التي تخدم النظام الطبقي، لان وجود المثقف الاحتجاجي والتنويري والاصلاحي بالتوصيف الماركسي يعني تهديدا للنظام والتقاليد والقيم الارستقراطية والطبقية التي تمثل عمران المجتمع.
المثقف العضوي القديم يقف اليوم راثيا السرديات والايديولوجيات الطللية، وربما يرثي كل الرومانسيات الثورية التي لم تستطع ان تصنع اوطانا صالحة للاستعمال المدني، واحسب ان اعادة انتاج هذا المثقف تتطلب اعادة انتاج الكثير من الثقافات المجاورة، بدءا من ثقافة الايديولوجيا الى الحزب والامة والقومية ولكل الشعارات التي اغوتنا طويلا، وانتهاء بثقافة الاستهلاك والترويج والدعاية.
كل هذا لا يعني بطلان صناعة نموذج اخر لهذا المثقف، لان حديثه يكتسب الان شحنات اثارة عالية، لانه يقترن اليوم بحديث الازمة التي عاشها ويعيشها العراق والعديد من البلاد العربية، الذي بات تحريضيا وداعيا، ووسط اتساع وظائف اخرى للمثقف العربي، بما فيها وظيفة الداعية الديني او الداعية الايديولوجي، او ربما ظاهرة المثقف المنسحب والخائف.
استدعاء هذا الفهم ليس لان المثقف المصطنع سيصنع موقفا، او يوسع مدى الجرعات الثورية، او انه يضع ارادته في الفعالية التاريخية، بل ان ضرورته تكمن في وعيه لمواجهة التحديات التي تهدد الوجود الانساني، وتهدد قيم الحياة والجمال والعمران. واحسب ان مسؤولية هذا المثقف تتجلى في ظل ظروف معينة لتعزيز مسارات التحولات العميقة، ولاستنبات خطوط اخرى لمواجهة الثقافات الظلامية التي تصطنع الاستبداد والقهر والهيمنة السياسية. وهذا الدور الثقافي اصبح مثار جدل في الثقافات العربية بشكل عام، اذ هو صورة للبطل المنقذ والطهراني، مثلما هو مسؤولية اخلاقية، مثلما هي تاريخية، والذي يمكنه موضعة الدور الوعي الشقي امام استحقاقاته في مواجهة الاغتراب، والدعوة الى صيانة الانسان، والى حماية حريته ووجوده ومعيشه، فضلا عن تمثله لمواجهة اخطار نمو الافكار المتطرفة التي تسهم في اعادة صناعة الاستبداد والدكتاتوريات، وكل ما يمكن ان يهدد الحريات المدنية والحقوق تحت مهيمنات الفهم الضيق لظاهر النص، وهيمنة ولاة الامور الذين ينهلون من افكار ميتة انتجتها ظروف تاريخية معقدة، ومن هنا ندرك اهمية البناء الثقافي، وتعزيز قيمة العمران الثقافي على مستوى البناء المؤسسي والتعليمي والقيمي، وعلى مستوى التفاعل العميق مع الخطاب السياسي، وبما يعطي لهذا الخطاب دافعية اكثر فاعلية واكثر قدرة على مواجهة ازمات الدولة والنظام الاجتماعي والسياسي.
ان دور المثقف العضوي بنسخته الجديدة ليس بالضرورة هو استعادة مباشرة لطروحات المفكر الايطالي غرامشي، التي روّج لها تحت عوامل تاريخية وايديولوجية معينة، بقدر ماهي التعاطي مع منظور اكثر جدّة لوظيفة هذا المثقف في مرحلة تاريخية اكثر تعقيدا، واكثر تمثلا لوقائع صراعية جديدة، وبما يضع هذا المثقف امام مسؤوليات نقدية تستشرف افقا اكثر سعة، وواقعا اكثر استدعاء لاسئلة الحداثة والمغايرة، اذ ان هذه المغايرة ترتبط مباشرة بمجموعة من المعطيات الجديدة، خاصة على مستوى الصراعات التاريخية، والتي تلازمت مع انهيار الكثير من الايديولوجيات الشمولية، وانماط السلطات التقليدية التي برزت منذ الخمسينات تحت يافطات حركة التحرر التي واجهت المهيمنات الاستعمارية التقليدية، لكن هذه الحركات فقدت العديد من مبرراتها التاريخية بعد ان تحولت الى نظم استبدادية، فرضت سلطاتها القمعية على شعوبها بالقوة والقهر السياسي والاجتماعي، وهذا ما يجعل عملية المواجهة تستدعي الكثير من المعطيات، بما فيها المعطى الثقافي الذي ينبغي ان ينهض به المثقف العضوي الذي يمثل الوجه التنويري للانتماء والوعي والارادة والحرية.
ضرورة هذا المثقف لا تعني بالضرورة ان يكون بصورة الفرد الرسولي ايضا، والفرد الاسطوري، بل يفترض وجوده الواقعي والعقلاني مع وجود المؤسسات الفاعلة، ووجود بيئات حاضنة واستعمالات ثقافية يمكن ان تتفاعل فيها اسئلة الحداثة مع وعي هذه الحداثة، فضلا عن تلازمها مع قيم الحريات والعدالة الاجتماعية والحقوق المدنية ومنظومات التعليم والتنمية والاشباع، التي اضحت مرجعيات اساسية في صياغة معادلات الصراع الجديد، اذ ان السلطة القديمة التي ظلت تتمترس بالاستبداد والقوى القديمة وشعارات ما قبل الدولة المدنية فقدت مبرر وجودها التاريخي والاخلاقي امام استحقاق ولادة قوى جديدة في الدولة المدنية والبنى الحقوقية، ولكن هذه القوى لا تأتي من فراغ، وانما هي وليدة لتحولات تاريخية، ولتمثلات عميقة داخل بنيات المجتمع، التي تلعب فيها القوى الثقافية العنصر الاكثر حراكا في التعبير عن جدتها، وعن تفاعلها باتجاه صناعة تاريخ جديد لمرحلة الدولة الجديدة التي يبشر بها المثقف العضوي الجديد، المثقف الايجابي الذي يضع قيم الانتماء والحوار وصناعة الاسئلة على رأس اولوياته.

٭ ناقد عراقي

علي حسن الفواز