تجميع المفردات في الرواية

اثنين, 2014-11-24 12:23

أتيح لي أن أشارك هذا العام في معرض الشارقة للكتاب، بجانب عدد من الزملاء الكتاب، في ندوة كان عنوانها: «الرواية ومفردات الحياة اليومية»، وكان اختيارا عظيما حين شارك معنا الروائي البريطاني من أصل سيرلانكي روميش غودتسكرا، ليبين لنا هو الآخر، ما هي تلك المفردات التي يمكن أن تكون رواية، في بيئة مختلفة تماما عن بيئاتنا، وحقيقة ورغم اختلاف البلدان العربية في كثير من المفردات الخاصة بكل بلد، إلا أن الصورة العامة تبدو واحدة. والذي يكتب رواية في أي بلد عربي، سيجد من يفهمها ويتفاعل معها في بلد شقيق آخر.
ما اتفق عليه المتحدثون في تلك الأمسية، يبدو قانونا عرفيا تخضع له كتابة الرواية، من دون أن يسنه أحد، فبالإضافة لمفردات مثل: الليل والنهار، والزمن والشوارع وكثير من الهياكل التي ترسم أماكن الحكي، فلا بد من دخول تجربة خاصة بالكاتب أو بيته أو شارعه في النص الذي يكتبه، خاصة في نصوص البدايات، حيث تطغى لحظات انفراد المبتدئ بنفسه على لحظات اختلاطه بالمجتمع المحيط، فتنتج تلك النصوص المستوحاة من الذات، ولذلك لن ينكر أو لن يستطيع أن ينكر كاتب في بداياته، أن قصة الحب التي دارت في الرواية، وضمت بطله مع واحدة من الفتيات بالجوار، هي قصته الحقيقية، أو فيها شيء كثير من قصته الحقيقية، ولن يكون الذي كانت بطلة رواية لكاتبة ما، تخصه بالنظرات الهائمة، وتترقب ظهوره في الشارع كي تراه، وربما تكتب له رسالة، تلقيها في طريق عبوره، سوى واحد من فتيان الجوار، عرفته الكاتبة ذات يوم، وكما قلت إن تلك الفرضيات ليست قوانين، يتبعها الجميع، لكنها بالفعل تشكل لحم معظم روايات البدايات، التي كتبناها كلنا، وكان يمكن أن تصنع عديدا من المشاكل، لو كان المجتمع متقدما، ويتابع الكاتب بدقة، ليرى ماذا يكتب.
أذكر في روايتي الأولى المسماة: «كرمكول والحصانة القروية»، وكانت قطعة شعرية كتبتها بنفس واحد، أيام كنت طالبا نهاية الثمانينيات، من القرن الماضي، أن كتبت أشخاصا من الجيران، نشأت بينهم، ودخلت بيوتهم وأنا طفل، كتبت بعضهم بهيئته التي انطبعت في ذهني، وبعضهم بهيئات مخترعة، ربما اختلفت عن الحقيقة، لكن المحصلة أنهم كانوا وقود كتابتي ومصدر إيحائي الأول، وصادف أن التقاني أحد الشباب منذ عدة أعوام، وكان قد قرأ «كرمكول»، سألني مباشرة: هل كان ذلك الرجل الضخم، الذي أحب المدرسة نعمات، هو عمي؟ لقد كان يشبهه كثيرا. في الواقع لا أذكر «كرمكول» الآن ولا أذكر ماذا كتبت فيها بالضبط، وربما كان ذلك الرجل عمه بالفعل، لأنني كما قلت، استخدمت في تلك الرواية، وروايتين أخريين جاءتا بعدها، وقودا اعتبرته غنيا، وكان متوفرا في الذهن بكثافة، هو وقود الأهل، وأصدقاء العائلة، وسكان الأحياء والمدن التي توزعت فيها طفلا، ومراهقا، وشابا، بصحبة أهلي.
الزميلة فاطمة المزروعي من الإمارات، وهي كاتبة شابة، ما تزال تملك عالما ثريا تستل منه نصا كل فترة، تحدثت عن شيء مختلف جدير بالتوقف عنده، وهو أن الكاتبة المرأة رغم أن تصنيف الكتابة بوصفها نوعين، كتابة الرجل وكتابة المرأة، لم يعد يستخدم الآن، ولا يرضي أحدا، إلا أنها كامرأة، تستطيع القول إنها تملك مفردات فسيولوجية وحياتية ومجتمعية، لا يملكها الرجل، لذلك هي تستخدم ما تسمعه في جلسات النساء، تستخدم الحناء والمكياج الكتابي، وتستخدم أدق الأدوات النسائية في كتابتها، وتعتبر ذلك من هبات البيئة للكاتبة المرأة.
لعلي أتفق مع فاطمة، على أن الكاتب الرجل ومهما ألم بمفردات معينة للنساء، ومهما كتب عن مشاعرهن، لن يستطيع مثلا كتابة دموع هطلت لامرأة، في لحظة فقد أو فراق، كما يمكن أن تكتبها المرأة نفسها، حتى أولئك الذين درسوا العواطف النسائية جيدا ووظفوها، لا أعتقد أن كتابتهم، ستبدو حقيقية، ككتابة المرأة، وفي ذهني رواية: «الوله التركي»، للإسباني العظيم أنطونيو غالا، التي جعل بطلتها امرأة إسبانية، سقطت في هوى دليل سياحي تركي أثناء زيارة لتركيا بصحبة زوجها، وتحولت إلى شبه جارية بسبب ذلك العشق غريب الأطوار.
لقد كتب غالا مشاعر بطلته «دسي» بمهارة واقتدار، رسم تصرفاتها، وتقلبات مزاجها، وحتى ما يطرأ عليها من تغير هرموني، في ساعة علاقتها الحميمة، وحملها وإجهاضها، إلا أنني كنت أحس أن ثمة شيئا ناقصا في البطلة، وهذا النقص كانت سترسمه ريشة امرأة، لو أن «الوله التركي»، كتبت بقلم نسائي. حتى استخدام المفردات، كان بعضها يبدو ذكوريا، مثل كلمة: امتلكني، فالمرأة لا تستخدمها لتصف بها تأجج عاطفة رجلها كما أعتقد. لكن رغم ذلك تبدو «الوله التركي»، واحدة من العلامات المضيئة للرواية في أي زمان.
الشيء الآخر الذي اتفق عليه المتحدثون في تلك الندوة، وكنت من مؤيديه بشدة، هو أن المفردات البيئية، حين يتم تجميعها لا ينبغي أن تكتب عارية كما هي وحقيقية كما هي، ولكن ينبغي أن يتم تطويرها بالخيال، فتصبح أكثر قوة وأكثر قربا من صنعة الرواية، التي تأخذ من الواقع ومن الخيال في الوقت نفسه. نعم الرواية صنعة، وتزداد تلك الصنعة تعقيدا في كل يوم، ومهما استسهل الناس كتابتها، وأصبحت أول ما يخطر على الإنسان بعد أن يكمل طفولته، هو أن يكتبها، تظل محصورة على موهوبين، عرفوا الصنعة وأجادوها.
روميش غوديسكرا، شاركنا تلك الآراء كلها، وذكر شيئا عن بيئته التي يستوحي منها كتابته. لقد كانت ثمة مفردات عامة، يختص بها الإنسان في أي زمان ومكان. مفردات فسيولوجية، وحياتية، وأيضا مفردات أخرى خاصة، تتوفر في المجتمعات الآسيوية والمجتمعات الغربية التي نشأ فيها الكاتب.
الكتابة تثري وتمنح المعرفة، ومثل تلك الملتقيات توحد الشعوب، بهذه الطريقة بعيدا عن كل اختلاف بيئي واجتماعي.
* كاتب من السودان

أمير تاج السر*