في تقريظِ الحمار

خميس, 2014-11-27 11:25

سألني أحد المذيعين عن أحبّ حيوان إليّ؛ ترك فيّ ذلك الأثر الذي تتركه ذكريات الطفولة الأولى في أيّ منّا؛ أصواتا وأجراسا لا تمّحي، وألوانا وظلالا لاتنصَل. والحقّ أنا لا أحبّ صيغة التفضيل هذه، فما أكثر الحيوانات التي صحبناها وأحببناها. وكان لكلّ منها قصّته أو حكايته. على أنّي من قلّة تكنّ للحمار كلّ احترام، شأنه شأن حيوانات أهليّة أخرى ـ والعجيب أنّها الحيوانات نفسها التي روّضها أسلافنا ودجّنوها، ولم نضف إليها حتى اليوم ولو حيوانا واحدا ـ جمَعنا وإيّاها صباح غابر من أيّام الخليقة حيث كان درب بسيط يوحّد بيننا وبين هذه الكائنات البكماء. ولكنّها قرابة قد نُسيت ـ كما كتب طاغورـ منذ زمن سحيق، ولم يبق من ذلك الفردوس السالف غير وشم بسيط في لغتنا؛ أعني هذه «المُحاكية الصوتيّة»: الكلمات التي تحْكي أصوات الحيوان والطبيعة، وبخاصّة في لغة كالعربيّة تمتلك سمة مميّزة في بنيتها الصوتيّة؛ هي عدم وجود صوت ينفصل عن صوت صامت يُلفظ قبله.
تعلّمت أن أحترم الحمار منذ سنيّ طفولتي البعيدة، في الريف القيرواني، بالرغم من أنّني لا أزال أحمل وسْم صكّته في جبهتي. فقد أحببنا حقّا تلك الكائنات وتعلّمنا وحدنا أن لا نزعج حتّى الجرادة وهي تغرز ذنبها في الأرض لتبيض، ولا الطائر المطمئنّ في ريح الصباح؛ وهو يهوي على ريشه بمنقاره، فينتف منه ويطيّره في الهواء، ولا الحمام وهو يُدخل فمه في فم أنثاه؛ وهما يتطاعمان. ولكن كان للحمار، من بين كلّ هذه الكائنات شأن وأيّ شأن. ثمّ كبرت وقرأت «حيوان» الجاحظ ، و»حياة الحيوان الكبرى» للدميري، و»حمار الحكيم» لتوفيق الحكيم، و»أنا وحماري» للاسباني الأندلسي خوان رامون خيمينيث، وأحببت كثيرا مرثيته لحماره «بلاتيرو»؛ وهي التي نوّهت بها لجنه نوبل عندما منحته جائزتها أواخر الخمسينات من القرن الماضي.
لم أصدّق البتّة ما يتناقله أسلافنا من أنّ الحمار إذا شمّ رائحة الأسد، رمى بنفسه عليه من شدّة الخوف؛ يريد بذلك الفرار منه، فقد رأيت منذ سنوات غير بعيدة جنديّا أمريكيّا في العراق يقود حمارا متلبّسا ب»جرمه»[ حمل راجمات الصواريخ]؛ وكان الحمار ينظر في عينيه بثقة، وينفض أذنيه؛ ولعلّه كان يضحك ويداري ضحكه بالنهييق. وذهب في ظنّي يومها أنّ هؤلاء الجنود كانوا يعانون من حالة هيستيريا أو هلسنة بصريّة، وأنهم ربّما حسبوا الديك حمارا والحمار ديكا.. وربّما أطلقوا نيران أسلحتهم على ذبابة تصقل بيديها مرآة حدقتها أو تمسح عينيها القزحيّتين من الغبار. أعرف أنّ للعرب في مدح الحمار وذمّه، أقوالاً شتّى متباينة، شأنهم شأن شعوب أخرى ف»الحمار شنار والعير عار»، وصوته أنكر الأصوات. وهو مثل في الذمّ الشنيع والشتيمة. وكانوا من كراهيّتهم له، يكنّون عنه كما يكنّون عن الشيء المستقذر، فيقولون «طويل الأذنين»، مع أنّ الحمار معروف بحدّة السمع، وباهتدائه إلى سلوك الطرقات التي مشى فيها ولو مرّة واحدة.
أيّ صلة يمكن أن تنعقد بين الانسان والحيوان؟ أهي الذّكرى؟ ولكن أيّ ذكرى؟
يتهيّأ لي أنّ هذه الصّلة «ذكرى» تقبع في سحيق سابق على وجودنا الاجتماعي، أعني منذ لا نتذكّر، ونحن كائنات هشّة بكماء، قطعة لحم تندلق إلى الأرض، وتتدرّج موكولة إلى هشاشتها في ذلك السّديم الأوّل أو النّعيم الأوّل، تتوسّل بالحركة والإيماءة أو بالضّحك والبكاء. إذن ألا يكون الحيوان ذاكرتنا الأولى المفقودة؟
إنّ الحيوان لا يرزح مثلنا تحت إرث الموتى، فإذا كان له ماض فهو ماضينا نحن البعيد، قبل أن تمتدّ إلينا يد المجتمع، وتحفر صورتها في لحمنا. 
ألا يكون تعاطفنا معه تعويضا عن غياب تلك الذّاكرة الأولى؟ عن لحظة فيه مثلما هي فينا، لحظة مهملة منسيّة،لا ندرك كنهها، ولكنّنا نريد أن نستردّها بأيّ ثمن!؟ الكلب الذي ينظر إلينا بعينين في عينيه، وينام دونما ندم وبلا كآبة.. الحمام الذي يتسكّع في ساحات المدن الأوروبيّة، غير مبال بالنّاس، ولا أحد يزعجه»هو بقر أوروبّا الهنديّ» 
كما قال لي البرتغالي أجيتوغونسالفاس.. وعول الجبال التي تتشمّم الهواء، ثمّ تقفز كلّما حدست خطرا، أو هي تربض ويسند بعضها بعضا قرب منحدر صخريّ ، أو على أطراف الغابات، وكأنّها تنتظر شيئا ما، كما رأيت بعد ذلك بأعوام، وأنا في سيّارة السّيّدة سيغريد كاهل ابنة المستشرق نوبرغ، نقطع الطّريق من ستوكهولم إلى لوند.. النّسر الذي يطير بعكس الشّمس، ويدور كأنّه يغسل الأرض من ريحها، ثمّ ينقضّ على حيوان أو طائر صغير، وينشب فيه مخالبه..سرب الإوزّ البرّي القادم من الجنوب، وقد انقسم إلى سربين مشكّلا علامة النّصر أو رقم( سبعة ) العربيّ أو الهنديّ ، في سماء الصّيف. وربّما لمح السّرب نسرا يمرق من صدوع الجبال، فإذا الإوزّات تحوم وتهبط،وهي تشرخ الفضاء بصأصأتها وصياحها المدوّي. حتّى البيضة التي تتهيّأ لتفقّس، والفرخ الذي يدقّ القشرة مثل كلمة سقطت من قصيدة، فهي تدقّ على باب الشّاعر، لأنّها لا تريد أن تتأوّه وحدها في الظّلام ، كما يقول الإسباني خوسي أنخل بالنته.. كلّ هذه الكائنات التي تعيش في الكون مثل الماء في الماء، ترتبط معـنا بشوابك قرابة كثيرة! ربّما نحن نسمّي الأشياء، أمّا هي فالأشياء تتسمّى لها. 
يتهيّأ لي أنّ القوّة التي تدفعنا إلى تلك الكائنات البائسة المربوطة إلى ظلالها هي هشاشة الكائن، الهشاشة التي تجعل حياتنا والحيوان خيطا واحدا.
ذكرى مثل حلم ملوّن نراه في الرّمق الأخير من النّوم، ويمحوه النّهار! ولكنّ أثره لا ينقطع طوال اليوم؛ أشبه ب»مونتاج» من أحلام خاطفة متلاصقة الأطراف، تتساند رأسا لرأس.
أما زلنا حقّا نذمّ الحمار، ونعدّ من مساوئ الآداب أن يجري ذكره في مجالسنا؟ ألا يزال بعضنا ـ كما قرأت في أخبار العرب ـ يستنكف من ركوب الحمار، وإن بلغت به الرحلة الجهد؟ وماذا لو تكلّم حمار عربيّ؟ أما كان يقول لنا بلسان مبين :» أيّنا أخُو مروءة؟ أنا طويل الأذنين أم أنتم؟ ألم تدركوا بعد ما يُراد بكم في هذا الزمن العجيب زمن الآلهة الوضعيّة من أنترنيت وفيسبوك وتويتر وهواتف خلويّة ذكيّة؟ ليس أكثر من أن تُمسخ صورتكم ـ ولعلّها مُسختْ ـ فأنتم نوعان من الحمير: نوع يحمل أثقال العولمة، ونوع ليّن الأعطاف سريع العدو، يسبق الخيل ، تركبه قوى الاستعمار العائد وتنزو عليه في هذه الحرب «المقدّسة» على الإرهاب.»
العزاء كلّ العزاء فيكم معشر الحمير. « ولكنْ دهرنا هذا حمارُ» [أبو تمّام].
*شاعر وناقد تونسي

منصف الوهايبي*