كتّاب عراقيون: لم نختر الموت… لكنه جاءنا مع الماء الجاري

خميس, 2014-11-27 13:44

في الوقت الذي يسعى فيه الشعراء والفنانون في العالم لإشاعة الفن والحياة بطرائق شتى، ينقسم بعض المثقفين والكتاب والفنانين العراقيين إلى طائفتين واضحتي المعالم. 
الأولى تبحث عن تجميل العالم وإعطاء الأطفال جرعة أمل من أجل مستقبل أفضل، فيرسمون سماءً فيها من الزرقة ما تكفي لجيل كامل، ويكتبون قصائد تبحث عن الحياة، وتروَّج لها، وتعطيها أبعاداً تعلو على الموت ولغته والعنف وتمثلاته. في حين أن هناك قسم آخر من الكتاب لا يقومون إلا بنشر صور الموت وقطع الرؤوس على مواقعهم الشخصية، أو في صفحاتهم على مواقع ^التواصل الاجتماعي كالفيسبوك والتويتر وغيرها. صور تجعل من المستقبل بقعةً سوداء في نفق مظلم لا مخرج منه، كما أن كتاباتهم لا تقطر إلا بالدم والدعوة للانهيار والانقلابات على الحكومة والمواطنين معاً. لكن المواطن العراقي؛ شئنا أم أبينا مجبراً على رؤية ثقافة الموت، من خلال التلفاز أو الراديو أو الإنترنت، فالجماعات الإرهابية لا تترك لحظة تهرب منهم إذا لم يشيعوا هذه الثقافة، كذلك بعض الجماعات التي لا تخرج المدن عن سيطرتها، فهنا في الداخل، وهناك في الخارج، ثمة خطاب دموي، وثمة موت معلن ومنتظر، وثمة حياة تهرب كما الماء من أصابعنا.
فإذا كانت المواطن العراقي مجبراً على ثقافة الموت، صوره التي تنتشر في كل مكان، تفجيرات لا يمكن السيطرة عليها، وسياسيون يبررون كل هذا في سبيل السلطة… كيف يمكن أن نفهم الموت في الثقافة التي ينتجها الكاتب العراقي، الذي من المفترض أن يكون مسؤولاً عن إشاعة ثقافة الحياة؟

رؤية مختلفة

لا يفصل الدكتور جاسم الخالدي بين المبدع شاعراً كان أم كاتباً والواقع المعيش الذي يشكل عموداً مهماً يستند إليه المبدع فيما يكتب، وأن معاينة هذا الواقع والخوض في غماره تفصح عن مشهد سياسي مرتبك وموت مجاني في كل مكان وأزمات متلاحقة. فليس أمام الكاتب إلا أن يكون جزءاً من هذا الهم الوطني والتعبير عن بصورة أكثر فاعلية في التأثير في المتلقي بقصد تشكيل جبهة ثقافية هي بالتأكيد تقف بالضد من ثقافة الموت التي أخذت جهات سياسية كثيرة تروّج لها وتدفع المواطنين البسطاء إلى الاحتراق بلظاها غير عابئة بمصير هذا البلد الذي كان ما يزال يتنفس المعرفة والثقافة والنور.
ويوضح الخالدي أن اشتغالات الكاتب لا يمكن جمعها في رؤية واحدة أو أسلوب واحد أو بصيرة واحدة، فإذا كان من الكتاب ممن حاول أن يصور العراق على أنه بلد الموت والدمار وأن ما حصل من تغيير سياسي من طرف خارجي قد أدى إلى انقسام مجتمعي ولا يمكن الخروج من نفق هذه الأزمات إلا بالرجوع إلى ما قبل 2003، وهي رؤية تحاول بعض الأطراف المحسوبة على النظام السياسي السابق أن تسوقها ولو قرأت ما يصدر من مجموعات شعرية أو روايات أو قصص تشعر بذلك التوجه. وثمة اتجاه آخر انتشر بين بعض الكتاب وهو محاولتهم التوجه صوب الماضي القريب لبيان مدى فظاعة ذلك الماضي وما ألم بالعراقيين من أحداث جسام فرقتهم بين المنافي أو أبقتهم تحت سياط الجلاد لذلك أمن بعض الكتاب والشعراء من الوفاء للضحايا وعموم فئات الشعب أن يكتب عن هذه الحقبة لبيان مدى مظلومية الشعب العراقي وكيف أن العالم المتحضر جداً تخلى عنه، في حين أنه التفت إلى شعوب لم تتعرض إلى جزء يسير مما تعرض له العراقيون.
ويستمر الخالدي في حديثه، قائلاً إن وهناك اتجاهاً ثالثاً من الكتاب ذهبوا مرة أخرى إلى الأساطير والإيهام والماضي السحيق وما إلى ذلك. و»يمكن أن تقرأ ما كتبه الروائيون العراقيون ممن يقفون في الصف الأول لتعرف كيف أنهم أغرقو أنفسهم في أتون موضوعات بعيدة عن هموم الناس ومعاناتهم. ولكن ما تقدم لا يبرر أبداً شيوع هذه الثقافة الذي أخذت مساحة كبيرة من الرواية العراقية، إذ ليس من الصحيح الارتماء الكلي في أحضان الواقع على الرغم من إيماننا الكبير أن الواقع لم يكن صورة واحدة، بل هو مجموعة صور. فإلى جانب صور الموت، ثمة صور متعددة ومتنوعة للحياة نراها في الشارع، فقبالة جثامين الضحايا هناك مواكب الأفراح والأعراس. قبالة الرغبة النكوص والتراجع لدى أعداء العراق ثمة عشرات الجامعات وآلاف المدارس تحتضن طلبتها من أجل انتشار لغة المحبة والتسامح، وغير ذلك من المشاهد التي لا تحصى ولا تعد لرغبة هذا الشعب في العيش الكريم وتشبثه بالحياة على الرغم من توإلى المصائب والنكبات وتطبعه على العيش بمختلف الظروف».
ويدعو الخالدي الكتاب والفنانين لأن يوزعوا نظراتهم إلى كل المشاهد والصور مع تغليب ثقافة الحب والتسامح على ثقافة الموت والدمار، وهو خط بدأنا نشهد حضوره من قراءتنا لبعض الأعمال الذي ظهرت في الآونة الأخيرة.

الحاضر الدائم

يرى الشاعر والباحث الاجتماعي واثق البيك أن الموت لم يكن يوماً غائباً عن ذهنية الكاتب والمثقف عموماً، إذا ما سلمنا بدءاً بأن الفعل الإبداعي، هو محاولة مواجهة وتصد مستمرين للغز الموت، وهي مسألة موغلة في القدم. أي أنها ارتبطت منذ فجر الفكر الإنساني بهم الحياة، والرغبة في الاستمرار فيها. لذا، إذا استثنينا في المشهد العراقي اليومي، رؤية الإنسان البسيط، الذي لا يمكن القول بأنه شخص متصالح مع فكرة الموت، وأنه مجبر على التعايش مع اللحظة العدمية المقبلة، نتيجة مؤثرات لا يمكن حصرها هنا، فإن المثقف بالتالي كان أمام مهمتين صعبتين في آن واحد، أولهما أنه إنسان ينتمي أولاً وأخيراً إلى المجتمع نفسه، ومن ثم، فإنه لا يختلف كثيراً في التعاطي مع الشأن اليومي المليء بالمخاطر والصعوبات والتحديات. وثانيهما، إنه أمام مسؤولية والتزام كبيرين يحتمهما كونه منتج ومبدع ومبتكر في أي حقل من حقول الثقافة والفكر والفن.
ويضيف البيك، أن تعاطي المثقف مع فكرة الموت، لم تخرج عن الإطارين سالفي الذكر، إذ إن مشهد الإحباط العام، واليأس، وعدم فاعلية الميكانيزمات على الأرض في مواجهة الإرهاب الوحشي، أنتجت نمطاً من الثقافة يمكن القول إنه لم يخرج عن الشعور السائد في الواقع، فبات متعايشاً مع لحظة العدم، ومستعداً لمواجهة الموت في أية لحظة على أساس من كونه حتمية وسط مشهد مليء بالموت اليومي. الاتجاه الآخر، وهو الاتجاه الذي يمكن أن نقول عنه إنه أكثر التزاماً بالمسؤولية تجاه الحياة، ما زال يقاوم من أجل غرس مفهوم آخر للموت من خلال إشاعة الرغبة في الحياة، ومواجهة التحديات بكثير من الصلابة، إذ إن الموت حقيقة لا يمكن إغفالها أو نسيانها، إلا أن الحياة تبقى، على وفق رؤية هذا الفريق، هي الأولى بالدفاع عن الحق في أن يحياها الآخرون.

بين الجمال والعنف

يطرح الناقد حسن مجاد رؤيته من خلال السؤال الذي يطرحه للقارئ: ترى إلى أي حد تمزج المتعة بوصفها وظيفة جمالية للآداب والفنون بالعنف الجسديّ طقوساً وشعائر، وتشكيل رؤية سلبية للاستسلام القدريّ عند الإنسان، هنا نتحدث عن كيفيات تشكيل (المتعة) بـ(العنف) بآليات منتظمة من ثقافة صورية وإشاعة مدرسيّة للحماسيات الوطنيّة وتقديم فهم أحاديّ لعلاقة (المواطن) بـ(الجهات المتحكمة بمصيره) على نحو يخبو به الصوت الجوهريّ للحياة ويتمازجا على شكل لا فكاك منه بتفويض من سياسات السلطة بجعل الحياة أقل شراسة مما يجب، وجعل المنظور الجمعيّ محملاً ببطش المحمول الرمزيّ لمظاهر الآداب الشعبيّة والفلكلورية التي تعبر ضمنياً عن علاقة البنى الاجتماعية ببعضها على وفق حدود (الهيمنة) و(المقاومة)، هيمنة الإنموذج الاستبداديّ بكل مؤسساته التربوية والتثقيفية التي تعمل على إنتاج أفراد صالحين ومتوافقين مع الأجواء العامة للمبادئ والقوانين ومتصالحين مع الضرورة من مؤسسة عائلة وصولاً إلى المؤسسات التعليميّة التي تنمي عند الفرد غريزياً ثقافة الموت من أجل فراديس الوطن. هذا من جهة ومن جهة؛ يقول مجّاد، المقاومة سايكولوجياً لكل قوى القمع التي تعمل على صياغات رسميّة للذاكرة التاريخيّة من أجل بناء الوطن، وهذه المقاومة تقوم على تنويع تاريخي مضاد يحفظ للأقليات المهمشة حرية العيش على عشب الحكاية المظلومة والمقموعة واللامفكر بها أيضاً.
و»من هنا وتأسيساً على ذلك، فإنَّ الشعور بالحياة بمعناها السلبي كما تقدمها (دولة الرفاهية) أو (الشعور بالموت بمعناه الايجابي) كما تقدمه؛ مثلاً، الوجودية لا يبقى منفصلاً عن الهيمنة السلطوية وسياساتها الرمزية للسلوك الفردي والاجتماعيّ عبر خلع كل ممارسات العنف الجسدي (من مقابر جماعيّة، وسجون وأقبية ومعتقلات) في ظل دولة تؤمن بعدائها للآخر وتهكمها من مشاريع التحديث وتسعى إلى فرض فكرة مختلقة عن وطن صيغ ضمن أطروحة راديكالية وأنتج في ظل رد فعل لانهيار المبراطورية العثمانية من جهة، وصولاً إلى عوالم الحرب الباردة وما بعدها كما حققتها بشكل مؤذٍ تجربة البعث في العراق ثقافة وأدباً وفناً».
ويكشف مجّاد إلى أننا بحاجة بعد كل هذه الانهيارات الكبرى لمساءلة التاريخ الوجه الأكثر قساوة للحقيقة، كما أننا بحاجة إلى إعادة قراءة الموت ثقافة وسلوكاً من منظور انثروبولوجي بعد تتغير حاد في القيم المدنية الحديثة، ومظاهر ترييفها وظهور المخبوء السياسي للاصطدام الطائفي بوجهه الدموي؛ لنفهم بعد ذلك في أنَّ بناء وطن ما لا يتم عبر أغانٍ حماسية لوطن شاحب!

تجميل الواقع

من جانبه يرفض الشاعر فضل خلف جبر تجميل الواقع من باب التفاؤل وإشاعة روح الأمل، وهذا ليس من مسؤولية المبدع، أياً كان حقله الإبداعي. مضيفاً أن الكاتب، من ناحية مبدئية، هو منتج ثقافة. وهو، بهذا التوصيف، معني بإشاعة ثقافة الحياة ومنحاز لها لأن الحياة نفسها هي فعل إبداعي والموت فعل مضاد. حين تشيّد بناءً، أيا كان نوعه، فهذا فعل حياة وإبداع. لكنك حين تهدم هذا البناء فانك تمارس النقيض. لا إبداع في الهدم. ينمو الإنسان في عملية تطور معقدة تستمر 18 سنة، هي سن البلوغ، لكنه يمكن أن يموت خلال دقائق معدودة! «لذلك يجب الاحتفاء بفن الحياة لا الموت. وإشاعة ثقافة الحياة لا الموت، لأن هدف الحياة هو أن نحيا وأن نضع في سبيل ذلك جميع الخبرات الممكنة للبقاء على قيد الحياة ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، لكن «عقب آخيل» يكمن في هذا الخط الوهمي بين أن تكون جزءاً من بروبوغاندا السلطة وبين المحافظة على نظرتك المستقلة للحياة والأحداث الجارية والتفاعل معها».
موضحاً أنه في الوضع الذي يعيشه العراق حالياً، يجد الكاتب نفسه موزعاً بين توقه إلى الاصطفاف مع المواطن في أحلك ظروفه الحياتية وبين دعم سلطة غير معنية بشيء سوى مصالحها التي تتعارض، في الغالب، مع مصالح المواطن. وبغض النظر عن عنصر «التسييس» الذي يفرض نفسه بقوة على المشهد الثقافي حالياً؛ فإن الكاتب مطالب بالحيادية وتغليب مصالح الوطن العليا على مصالح من يجلس على كرسي السلطة.
ويتساءل جبر: هل يجب تأويل تغنّي الكاتب بالحياة والاحتفاء بها على أنها تجميل للواقع البشع ومحاولة لابتزاز المواطن لقبول الواقع على ما هو عليه وبأن كل شيء على ما يرام؟ ممكن جداً. خاصة وأن الواقع المزري الحالي هو واقع مصطنع، بمعنى، أنه يمكن تغييره بين عشية وضحاها لو كانت هناك إرادة سياسية. «إن الممر الآمن للكاتب يكمن في الفصل بين الحكومة والسلطة، السلطة تمثل الدولة والحكومة تمثل نفسها! والواقع هو المسرح الذي نعيش فيه بكل تعقيداته!».

قيمة الحياة

محاولة الروائي ضياء الخالدي لتأكيد قيمة الحياة، تأتي من تقديسنا للإنسان، وإزاحة كل المبررات التي عادة ما تجمّل الموت، وتخفف من وطأته. تقلل من قيمة الإنسان وترفع من شأن الفكرة أو القضية، والفكرة هنا، صورة نمطية عن حلم ما، طاردة للآخر، مؤمنة بفراديس تجريدية. في العراق اشتبكت «أفكار» الدين و»براغماتية» السياسة، وتراجع الإنسان كجوهر، وقيمة عليا، إلى آخر الصفوف، ما جعل الموت عند خطابات المتصارعين شهادة، بدلاً من أن يكون صدمة لزوال إنسان يمكن أن يخدم المجتمع. ونظرة الثقافة للموت، تبدأ من تعرية خطابات الصراع، وجعلها أقل قيمة من الإنسان…
ويضيف الخالدي أن من المضحك والمبكي معاً، أن نرى المواطن العراقي لا حول له ولا قوة، ويتقبل موتاً مجانياً يومياً بسبب صراعات لا يصنعها بنفسه، وإنما يُقحم فيها بعناوين شتى. «الثقافة الحقيقية يمكن لها أن تفكك علاقة التابع والمتبوع، وتحرر الإنسان من أي قيد يقلل من هول زواله، أو يُحجّم من حريته الشخصية، وأسئلته الكبرى التي تريد أن تتحرى عن الماضي والحاضر والمستقبل، عن الأشخاص وأفعالهم، مهما علا شأنهم وتقدّست مقاماتهم». 
مبيناً أن الثقافة تُحرض العقل على النظر إلى الموت كخسارة كبرى، وتدفع الإيديولوجيات والمعتقدات إلى التراجع عن ثوابتها، عبر تفكيك بنيتها الجامدة، الخالية من أدنى اعتبار لآلام الإنسان، أو حياته. ما فائدة الموروث مثلاً إذا كان يحط من إنسان الحاضر، ويسحق شخصيته إلى حدود تجعله يتقبل الموت أو الإهانة. لا يمكن لهذا الإنسان أن يكون طبيعياً في زماننا هذا، وينظر إلى الوطن ورفاهيته نظرة صحية. لأنه صورة عن ماض متخم بسلوكيات وأمراض انتقلت كالعدوى من خلاله… الموت المجاني في الثقافة، مشكلة ميدانها الذهن، وليس عاطفة تتطلب منا لبس ثوب الحداد والبكاء!

صفاء ذياب