القتل الثقافي

أربعاء, 2014-12-17 21:45

ما أكثر أنواع القتل التي يزخر بها عالمنا الحديث، ويتفنن عالمنا العربي في منحها مسحة خاصةǃ لكن أشد أنواع الموت إيلاما هو موت الأحياء. وإذا كان المثل العربي يتحدث عن قتل الميت، والمشي في جنازته، فإن ذلك خير تعبير عن عدم الاهتمام بأحيائنا. نمارس ضدهم التدمير، ونتجند بشتى الوسائل لإلحاق الأذى بهم، ونشمت بهم حين تزل بهم القدم، ونظل نترقب متى تحيط بهم النوائب. لكنهم ما أن يموت أحدهم حتى نقلب ظهر المجن، ونتحدث عنهم وكأنهم ملائكة، فنكيل المناقب، ونحصيها واحدة تلو أخرى، حتى نأتي على آخرها.
لماذا نظل ننتظر موت أحد من الفاعلين في مجال ثقافي أو إبداعي أو سياسي،،، لنعمل على تعداد مناقبه؟ ولماذا لا نلتفت في حياته إلا إلى المثالب؟ فهل نكفر بذلك عن ظلمنا له في حياته، فنعزي أنفسنا لأننا لم نكن أهلا للتعامل معه وفق ما بتنا نكرره عشية وفاته؟ أم أن تخلصنا من حضوره الجسدي يدفعنا للترحم عليه، إعلانا منا عن النجاة ممن كان يسبب لنا أرقا، أو منافسة في مجال؟ 
لقد دفعني إلى طرح مثل هذه الأسئلة كثرة ما كتب وقيل من نعوت وأوصاف عن عبد الله باها، بعد وفاته. والشيء نفسه لاحظته بخصوص أحمد الزيدي، وقبلهما ما عاينته من اختفاء علامات كثيرة في فضاءاتنا الثقافية والفكرية والسياسية،،، مغربيا وعربيا. أيكفي أن نكرم ابن آدم بعد وفاته، ونتعامل معه، من باب «اذكروا موتاكم بخير»؟ لكن هذا الذكر حين يتعدى ذلك إلى إضفاء مسحة شبه أسطورية عن الميت، لا يمكن إلا أن يحث على التساؤل: لماذا لم يتم الالتفات إلى تلك المسحة في حياة الشخص؟ لقد سمي باها بعد وفاته بـ»الحكيم»، وترددت هذه الصفة في الكثير من الكتابات، وفي مختلف الجرائد والمجلات. 
لم أسمع قط هذه الصفة عن الرجل، وهو حي. وأخال أنه لو وصلت إلى مسامعه في مختلف الوسائط الجماهيرية، إبان حياته، لقلبت حياته، وجعلته مطمئنا إلى هذا الوصف الذي بقدر ما فيه من المكافأة، يتضمن حافزا معنويا يقوي حضوره ويعطيه دفقات أخرى، بشكل غير معهود. وقيل الشيء نفسه عن الزيدي، وعن كل موتانا، حين نبحث عن مناقبهم، ونجب بها كل ما كنا نتداوله بصدد كل منهم في الحياة. 
لكن كل الدموع التي نذرفها، والكلمات التي ننسقها، بعد فترة الموت، سرعان ما تبدأ في التبخر مع الزمان، فيتحول كل منهم إلى دائرة النسيان. وفي أقصى الحالات، نطلق اسم أحدهم على شارع، أو مدرسة. وبمرور الوقت نسأل أحدهم عن «الشخص» الذي تسمى به الشارع أو المدرسة، فلا نجد جوابا مقنعا. وبذلك، نكون ندفن الشخص مرتين: مرة في حياته، عن طريق الجحود والنكران، وتعمد الإساءة. وثانيا بعد موته، حين نسلمه إلى النسيان، بعد توهم أننا ذكرنا من مناقبه ما يكفي وقت جنازته. هذا هو ما أسميه القتل الثقافي. 
القتل الثقافي تشويه للذاكرة الجماعية ومحو لها، عن طريق تجريح المساهمين في تشكيلها، في حياتهم. وفي الوقت نفسه، محاولة لتضميد تلك الجراح، بعد الموت، ويأتي النسيان. وما دمنا نتحدث عن المرحومين باها والزايدي، في سياق واحد، نتساءل ماذا ترك كل منهما من أعمال مكتوبة يمكن تدريسها للأجيال القادمة، لتظل ذكراهما حية في الوجدان؟ إن لكل واحد منهما تراثا نضاليا حافلا. فكيف يمكن التعاطي معه؟ كيف يمكن جعله مستداما، كي لا أقول خالدا، ولم لا؟ ولو باعتماد الصيغ الصوتية والصورية؟ لماذا لا نحتفي بكتابة السير الغيرية عن شخصياتنا الثقافية والسياسية، إسوة بقدمائنا الذين كانوا يهتمون بالرجالات، فيدونون أخبارهم، ومسامراتهم، وأفكارهم،،، وهي ماثلة إلى الآن. 
لماذا لا نكرم موتانا الذين قدموا خدمات جليلة لأوطانهم، فيكون حضورهم بيننا راسخا في الذاكرة والوجدان؟ في الدول المتقدمة، تتحول دور الكتاب والمثقفين،،، إلى متاحف يتسابق السياح على زيارتها، ويدخلون إلى محاريبهم بأحذية خشبية،،، ويجدون مخطوطات من كتاباتهم ومراسلاتهم،،، وصورهم، ويقتنون صورا تذكارية عنهم. 
إننا كما لا نكرم موتانا، لا نكرم أحياءنا. بل إن طريقة تكريم أحيائنا، هي التي بواسطتها نكرم أمواتنا. ولعل مثال المتقاعدين خير دليل على ذلك. نفكر الآن في رفع سن التقاعد، ولكن ما بعد التقاعد هو الموت الثقافي في أجلى صوره. إن متقاعدينا في مجالات كثيرة، راكموا خبرات وتجارب، وقدموا خدمات جليلة للوطن، كل في موقعه. قد يكرم الموظفون زميلهم في المكتب أو العمل، بعد إحالته على التقاعد، وقد يقدمون له هدايا،،، ويقولون كلمات جميلة وبليغة في حقه. وانتهى كل شيء. إنه يأكل القوت، وما عليه سوى انتظار الموت.
لماذا لا يتم التفكير في تكريم هؤلاء المتقاعدين عن طريق خلق مجالات للاستفادة من تجاربهم، والعمل على تسجيلها، صوتيا، أو صوريا، أو كتابيا. ويمكن قول الشيء نفسه عن الذين تقعدهم الشيخوخة عن العمل في البوادي والقرى . إن لكل منهم رصيدا، وذاكرة خزانة. لكننا نمارس القتل الثقافي.
* كاتب مغربي

سعيد يقطين*