إذا أردت النجاح في الغرب… أكتب عن الدين والجنس واضطهاد الأقليات

خميس, 2015-01-15 13:26

يتميز الروائي والناقد المغربي أحمد المديني بغزارة الإنتاج وجودته، حيث وضع أكثر من خمسين مؤلفا في الرواية والشعر والقصة والنقد الأدبي، كان آخرها «الرحلة المغربية إلى بلاد الأرجنتين وتشيلي البهية» الذي صدر عام 2014، وهو كتاب يجمع بين التحقيق والتوثيق لرحلة قام بها المديني إلى الأرجنتين وتشيلي عام 2011.

■ كيف تنظرون لواقع النقد في العالم العربي في ضوء النظريات والمناهج الجديدة؟ وهل استطاع أداء مهمته في توطيد العلاقة بين المبدع والجمهور؟
□ الحديث عن النظريات والمناهج الجديدة اليوم يتجاوز وعي المواد والأدوات التي يتم تلقينها والتمرن عليها منذ الأقسام الإعدادية، فالتعليم الجدي للأدب لم يعد يكتفي بشرح النص مفردات ومعنى عاما، وفي مستوى ثان نحوا وبلاغةً، وفي مستوى آخر، مناسبة وسيرة منشئه وإحالاته. 
وهذه العناصر جزء من زاد الملقن والمتعلم وتحصيل حاصل، وجاءت المناهج الجديدة لتنظمها وفق ما استجد في مباحث العلوم الإنسانية (لسانية وبنيوية وسيميائية)، وتجعل الأدب يختص بمادته ويستثمر في اللغة والصورة والمعنى، في داله ومدلولاته، ببناء ذاته، أي أدبيته.
وثقافتنا العربية لم تعد خالصة، فلا توجد راهنا أي ثقافة أو بيئة منغلقة على أدبها وثقافتها، وينسحب هذا بطبيعة الحال على نقد العرب الحديث، حيث عمّ الدرس والمنهج «الجديدان» أوساطنا الأكاديمية والدراسية، خاصة في الجامعتين المغربية والتونسية، حيث ذهب أساتذتها والمتخرجون منها شوطا بعيدا في هذا المضمار، وأنجزوا فيه أعمالا مرموقة.
والنقد الأدبي لم نعد نسمع به إلا في تعليقات الصفحات الثقافية، أما الرصين والمتخصص فنادرٌ وموقعه المجلات المتخصصة التي تنعدم تدريجيا لحساب ثقافة الاستهلاك، وإذن، لا مجال ولا منطق للحديث عن نقد يفسر أو يحكم أو يؤول.
■ ما هي إشكالية ترجمة الأدب العربي للغات الأخرى (الفرنسية)، وما مدى تقبّل الغرب لهذا الأدب؟
□ الترجمة أول باب ندخل منه لنتعرف على ثقافة العالم، وهي غرفة واسعة بنوافذ مفتوحة على هذا العالم بسعته، لو كانت مشرفة عليه كما يجب. والثقافة الفرنسية إحداها، والترجمة فعل ثقافي تقدم عليه نخبة من المتعلمين تقودهم رغبة إطلاع شعوبهم على معارف وآداب الأمم الأخرى، بما يغني ثقافتهم هم ويحقق التقدم المنشود. 
إلاّ أنّ الترجمة من العربية محدودة جدا، ولنقتصر على فرنسا، مثلا، حيث لا توجد أي مؤسسة متخصصة في ترجمة المصنفات العربية، ولا أي جهة تعنى عناية رفيعة بثقافة العرب في العصر الحديث. وإذ نرى دور النشر الفرنسية تتضمن مترجمين ووكلاء متفرغين لنقل الأعمال الأدبية (الروائية بالذات) من أغلب لغات العالم، لا يوجد إلا عدد قليل للعربية (في دار أو اثنتين)، ونقل العمل فيها يغلب أن يكون صفقات منظمة، وخاضعا للمزاج، أي قلّ أن يخضع للقيمة الفكرية والفنية للعمل المترجم، وإن اتفق فتمويله آت جله من مصالح التعاون والخارجية الفرنسية، وبعد هذا وذاك لا يجد ما يتطلب من ترويج إعلامي، ويكاد يكون منعدم الصدى، اللهم إلا أن يمتلك عناصر إثارة تتمثل في إطلاع القارئ على وجه فضائحي وفلكلوري وبدئي لعوالمنا في وجوهه المشوهة، وتقاسيمه المجعدة. 
يقولون لك بصريح العبارة إن الوسط الأدبي الغربي ليس في حاجة إلى كتابات لعرب محدثين، مجددين في أساليبهم، ذوي أسلوب ومنظور خصوصي، كما يستهويهم هذا في نصوص مكتوبة بلغات غير العربية، وإنما إلى أطباق دسمة من الغرائبية والشخصيات المسكونة بسلوك وعقليات غابرة، ولا بأس بتوابل منددة بالدين، استعراضية تنضح زورا باضطهاد الأقليات، ونعي كبت الحريات الجنسية، بترويج المثلية خاصة، والتحلل من الارتباط بالمقومات التاريخية للأمة، عموماً النصوص التي تروّج لأيديولوجيا وثقافة مسبقة، منها العجائبية والكولونيالية، هي تكريس للنظرة التي تحب جهات نافذة في المؤسسات الثقافية ودور النشر أن تستمر تجاه العرب، لا يكفي أن تكون ذا موهبة، أو مفحما في ميدانك، لن تنال الرضى «حتى تتبع ملتهم». ومن المؤسف أيضا أن دور نشر كانت متخصصة في نقل عيون التراث العربي والكتب الأكاديمية الحصيفة انتهت إلى الإغلاق، بسبب الضيق المالي. 
■ ما هي حدود الأيديولوجيا والإبداع؟ وأين تكمن الخيوط الفارقة بين جمالية النص الإبداعي وأخلاقياته؟ 
□ الأيديولوجيا والخطاب السياسي، والمثل والمبادئ الأخلاقية، وغيرها خطابات مستقلة بذاتها، لها ميادينها. لذا فإقحامها بشكل سافر ومتعسف وجهير، بل ومغرض أحيانا، في الكتابة السردية يضعفها. 
إذ الرواية ليست فنّ التسخير الأيديولوجي، والترويج السياسي، كما رشحتها النماذج السطحية والدعائية للواقعية الاشتراكية، الرواية هي فن سرد الحياة، بطلها الإنسان بمكونه الذاتي، وضمن شبكة العلاقات الاقتصادية والاجتماعية المهيمنة، هي والمنظومة الأخلاقية والأيديولوجية السائدة، فتأتي لتنثر هذه الحياة والصراع الدائر في خضمها، بأدواتها المخصوصة بها، وعلى طريقتها/ طرقها، تتنوع من كاتب لآخر، واتجاه لاتجاه. 
في قلب هذا الأداء يندرج الخطاب المذهبي الخلقي المُثُلي، لنسمه عموما فكر الرواية، ولا يمكن لهذه أن تتنصل أو تخلو منه بأي شكل، بل خلوُّها هو خطاب في حد ذاته، والاختلاف كان وسيبقى بين الدارسين حول طبيعة حضور هذا الخطاب وطريقة التعبير عنه وإيصاله. عدا هذا فالأيديولوجيا كامنة كمون الغرائز الأولى في الإنسان، وتطويعه لها وتكيّفه معها هو من طينة عمل الرواية.
لنذكر بأن النقد الأدبي ودرس الأدب عرفا كيف يفصلان في سياق قراءتهما وفهمهما للعمل الأدبي ومن ثم ينظمان الخانات بين ما هو أدبي وما سواه، بدءاً بلوسيان غولدمان في بحثه المرموق «سوسيولوجيا الأدب» (غاليمار 1964)، إلى بيير ماشيري الذي طور هذا الاتجاه في: «حول نظرية للإنتاج الأدبي» (ماسبيرو 1966) وصولا إلى توماس بافل في بحثه المرجعي عن:»فكر الرواية» (غاليمار2003). 
وليس أفضل لمعرفة التشابك بين البنيتين السردية والاجتماعية وطرائق تداخلهما في العمل الروائي من العودة إلى المبحث المهم للأمريكي أيان وايت:»The Rise of the Novel» (كالفورنيا 1957) الذي يبين فيه، اعتمادا على أعمال ديفو ورتشاردسون، من جهة، أن التجديدات في التقنية الروائية وثيقة الصلة بتطور البنية الاجتماعية (اقتصاد السوق، الوضع الجديد للكتاب والقراء) شأنها مع البنية الفوقية، الدينية والثقافية، وبأن صعود الرواية الواقعية الإنكليزية ترافق مع الصعود الثلاثي للاقتصاد العصري للسوق، والأخلاقية الفردية والنظرية الحديثة للمعرفة، من جهة ثانية. 
الأيديولوجيا والسياسة ليست الكلام الخطابي الذي تتورّم به بعض الروايات العربية، ركام من سِباب وتشنيع وقذف مباشر وتشهير ضد أشخاص ورموز وأحزاب، أيا كانت الرزايا، آخر وجبة منه مبذولة في روايتين حازتا قصب السبق في جائزة باتت مكرسة، عنوانهما: «فرانكشتاين في بغداد» و»لا مطبخ في سكاكين هذه المدينة»، خاصة، فاقرأوا وانظروا.
■ ماذا يعني المكان لأحمد المديني؟ 
□ في جميع رواياتي، تحضر المدينة مكانا حافلا بالأحداث، هي بطل وذاكرة ومهرب ومنفى. تشغل ثلاث روايات عندي مساحة السرد والبطولة الأقوى في مساري الروائي بكامله، هي: «مدينة براقش» (1998) تحضر فيها الدار البيضاء مرسومة طبوغرافيا، وتنتقل الشخوص في أحيائها القديمة والجديدة وهي تتكلم لغويا ورمزيا سيرها في رحلة وجود عَصِيّ هو وجود المدينة ذاتها، وموثقة تاريخيا، بحكم الإحالات إلى جذورها الضاربة في القدم، متراوحة بين تليدها وطريفها، غابرها المنسي، وحاضرها المشحون والخُلّب، بما يعني أن البحث عن الخلاص والتمرد لدى الشخصيات الفاعلة هو بحث عريق، وبسبب التبدل والعوائق القائمة فيها هو إشكالي، لذلك يميل المؤلف إلى تكسير صلابة الواقع وعناده ضد التغيير بالتحليق في سماء المحكي الأسطوري والصوفي، يعطي سمكا للتكوين المادي، وهو يستحضر ذاكرة المكان في الوعي والوجدان.
في رواية» فاس، لو عادت إليه» (2003) تمثل المدينة منبع حنين للطفولة، عبر الاسترجاع وإعادة بناء الزمن والمكان بالذات لغويا، لشخصية كبرت، ووجودها في زمن حاضر لا يشبع طموحها، شأن كل شخصية روائية مشكلتها مع النقصان والبتر وما يتعذر تحقيقه في الواقع، وآخر عمل هو: «ممر الصفصاف» (2014) أعتبره نص المكان بامتياز حيث ألعب لأول مرة لعبة انبثاق معمار وشكل رواية بتعالق وتناسج بين كائن إنساني وآخر حيوان، كلاهما يبحث عن وجود لائق في مدينة، حي جديد في الرباط، يشيد في ظروف غير لائقة!

القدس العربي 

حوار: نضال القاسم