جيرة الماء والكهرباء... والدولة

أربعاء, 2015-05-27 07:30

بعد أسابيع قليلة من تأكيد الرئيس الموريتاني أن البلاد تجاوزت حد الإشباع والاكتفاء في مجال الكهرباء وأخذت في تصدير الفائض إلى الجيران... استمرت انقطاعات الكهرباء في كل مكان من العاصمة بالإضافة إلى انقطاعاتها العادية في مدن الولايات التي لها وجود بها.

بالطبع ـ وكالعادة ـ فإن الأحياء الشعبية التي يسكنها أغلب القاطنين بنواكشوط، تتعرض لأكثر وأطول فترات الانقطاع.

لكن العامل المشترك بين جميع الأحياء هو أنه لا مجال للاطمئنان على استمرار التيار ولا سبيل إلى توقع متى ينقطع ولا متى يعود. إنه خبط عشواء، ما من منطقة في مأمن إصابتها، بما فيها المستشفيات والمصالح العمومية ومراكز الأمن..

فقط سكان "العشوائيات الرسمية" (الترحيل) والأكواخ المنسية المحرومون أصلا من شبكة العتمة هم الأحسن حظا لأنهم لا علاقة لهم بشركة الكهرباء الحكومية التي تحتكر حقل الكهرباء بلا جدارة. وهي شركة ما غابت عن سوء تسيير وتوزيع هذه الخدمة الحيوية، بل يمكن الجزم بأنه لو امتلكت البلاد محطات الطاقة التقليدية والغازية والنووية وعمت أرضها وسماءها أحسن شبكات النقل والتوزيع، لأفسدتها إدارة "SOMELEC" واجتثت منها النفع وربما أبطلت قوانين الفيزياء الطبيعية نفسها!!

هذه الشركة ودعيتها SNDE بالإضافة إلى ما ينخر مراكزهما من الفساد والفوضى واحتقار وظلم المواطنين، تسيران إلى الوراء حيث تعجزان، على سبيل المثال، عن إعلام المشتركين فيهما بفواتير ومواعيد الدفع، رغم المبالغ الطائلة التي تنفق على الفوترة فيهما. أما التعاطي والإبلاغ بوسائل الاتصال الحديثة كالهاتف والانترنت مثلا فلا وجود له، ربما لأن هذه الوسائل متاحة لدى الجميع وسريعة ولا تكلف مبالغ مالية ولا بشرية!

ولا ريب أن الخسائر الناجمة عن انقطاعات الكهرباء واتصالاتها الفجائية كبيرة وبالغة السوء على الجميع بدون استثناء: خسائر مادية بسبب توقف الأعمال وتلف المحفوظات المبردة، وخسائر فنية في مختلف الأجهزة والمعدات، وخسائر معنوية ونفسية بسبب توقف التكييف ـ عن المحظوظين به ـ وعموم الظلام وما يؤدي إليه من الخوف والقلق واستخدام منيرات الاشتعال الخطرة، ثم حالة الارتباك التي تسود بين الناس وتقلب سير حياتهم ومسارات برامجهم الشخصية...

ما الفرق إذن بين عصر العوز في الطاقة وانقطاعاتها، الذي يُعير به النظامُ الحالي أسلافَه قبل 2008 (أي ما قبل التاريخ!) والانقطاعات الحالية؟

إن الفرق الوحيد هو توفر أسباب السخرية التي يطلقها كل المواطنين حين تنقطع الكهرباء اليوم قائلين: انقطعت لأنهم صدروها إلى الخارج!

هم يدركون تناقض وزيف هذه الحكاية، ولكنهم ببساطة يسخرون من أصلها القائم على المغالطة والدعاية السخيفة والاستهزاء والاستخفاف بعقولهم.

والحقيقة أن الكهرباء ما هي إلا نموذج واحد لتلك المغالطات والتناقضات، والفشل الذريع في كل المجالات وعدم القدرة على إدارة أي شيء حتى لو كان وافرا فائضا.

وهكذا فقد تكون الكهرباء فعلا غزيرة الإنتاج كافية متوفرة بفضلة معتبرة يمكن بيعها للجيران أو هدرها كباقي الأشياء (والنتيجة أصلا ستكون واحدة!)، لكن الفشل الناتج عن سوء التسيير والفساد والتخبط، يمنعان من حفظها وتوزيعها واستفادة عامة الناس منها.

غير أن المصيبة الحقيقية، وهي السر في كل ذلك، هي سياسة الدولة في انتهاج الدعاية والكذب والتدثر بصفات النجاح والكمال فوق عورات الفشل والنقص ومركباته!

فمن المستحيل أن تسمع أي مسئول في هذا البلد، ساميا أو ساعيا، يكشف عن خطأ ما أو يعترف بفشل أو بنقص أي عمل حكومي... قد يصارحك بذلك ويبين لك منه ما يرعب النفس إذا ناجيته في مجلس خاص! لكن وظيفة كل وزير وكل مسئول هي أن يذيع من المدح ويبتدع من دعاوي النجاح ويختلق من أوصاف الكمال والحسن، عبر وسائل الإعلام والمواقف والخطابات واللقاءات الرسمية، ما وسع خياله. حتى لكأن نهج الحكومة مقدس عن الخطأ وعملها البشري معصوم من القصور والزلل... أو لكأنهم يعتبرون الكذب فضيلة والقول ـ مجرد القول ـ ثمرة، ويحسبون مواطنيهم صما وبكما وعميا لا يفقهون شيئا...

بعد أحاديث رأس الدولة الأخيرة، التي يبدو أن هذه الأساليب الخيالية حواش وشروح عليها، استمعتُ بقدر من الدهشة والاشمئزاز لحديث أحد أعوان الرئيس "المحترمين" وخدامه الوزراء وعباقرة "البوقولوجيا" يقول إن كل أسرة موريتانية قد ارتفع دخلها بنسبة تربو على 50% منذ 2008 (بداية التاريخ!) وبالتالي فإن الفقر والبطالة قد آذنا بالإقلاع من هذه الربوع!.

والحقيقة أنني شخصيا أعرف مئات الأسر الذين انخفض دخلهم وازداد فقرهم بنفس النسبة في نفس الحقبة.

لقد كان باستطاعة هذا الوزير العبقري أن يطلق وصفه الوردي هذا على "بعض" الأسر ويكون صادقا؛ لأن هناك أسرا موريتانية ازداد دخلها فعلا بأكثر من ذلك في هذه الفترة؛ وهم فقط الوزراء والنواب والضباط والسماسرة الذين تشملهم عناية "رئيس الفقراء" وينالون رضاه الأكبر.

لهذا لا عجب إن كانت التنمية والاقتصاد المكلف بهما هذا الوزير لهما وجهان متناقضان: وجه كلامي افتراضي حسن ناجح، ووجه حقيقي واقعي قبيح فاشل.

مهما يكن فإن ما ينبغي أن يفقهه الناس ويفكروا فيه الآن هو: ما هو الوصف المناسب لتبجح حكومتنا بإنفاق الأموال الطائلة وبذل الجهود الهائلة وشراء المحطات والأدوات الكاثرة... دون تحقيق نتيجة ملموسة ولا فائدة عامة حقيقية من كل ذلك (ولنأخذ حال الكهرباء مثلا)؟؟!!

ونعلم أن الإنجازات في مجال الكهرباء والطرق هما ركيزتا الدعاية الحكومية وهما حقل الإنفاق المطلق لأموال الدولة التي استَنفدت فيهما وفرةَ السنوات الأخيرة الاستثنائية وثنَّت بالاستدانة المفرطة المجحفة من الخارج.

أما حال الكهرباء فهي كما أسلفنا وكما ترون، لا ما تسمعون! وأما واقع الطرق فأصدق نبإ عنه هو حال أهم محورين وطنيين هما طريق الأمل التي هي شريان البلاد، وطريق روصو التي تربط أوروبا والمغرب العربي بالقارة الإفريقية... وهما طريقان تزهقان منذ 2008 ـ أيضا ـ من أرواح المواطنين ما لا تحصده الأمراض مجتمعة!

لقد سخر السيد الرئيس، على نحو لا ينبغي للرئيس، في حديثه الأخير من مواطنة اشتكت من العطش وهي بجوار بحيرة "فم لكليتة"! لكن لو سلك فخامته طريق روصو، لسخر من مواطنين آخرين كثيرين يشتكون لاعج الصدى، ومجرى ماء النهر الذي يغذي العاصمة يخترق أحياءهم ومرابعهم يسمعون خريره في الأنابيب المحكمة!

وقد يكون سيادته، بحكم أن الأدب ليس من هواياته، لم يسمع المثل العربي/ الشعبي "جاور الماء تعطش"!

ومن هذا القبيل والواقع المزري يمكن القول كذلك: جاور الكهرباء يغشك الظلام، وجاور المحيط يغلك السمك... الخ.

محمد محفوظ بن أحمد