النخب بين ضعف العطاء و غياب الاعتبار/الولي ولد سيدي هيبه

جمعة, 2014-07-25 12:55

في عصر الكاز يطلب شاعر *** ثوبا.. و ترفل بالحرير قحاب (نزار قباني)
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله *** و أخو الجهالة في الشقاء منعم (المتنبي)
 
في الوقت الذي تتمتع فيه الطبقة المتعلمة و المثقفة في كل أنحاء عالم بالمقام المعنوي الذي يناسب محورية دورها في صياغة شخصية الكيان الأدبية و التاريخية و الروحية والسياسية و بالمستوى المادي اللائق بها  للحفاظ على ديمومة أدائها وعطائها في أبهى الصور و أقواها، و هي تقدمه بإخلاص و في تفان و إتقان و إيمان ببلدانها و شعوبها.. فإنها هنا في هذه البلاد ـ أرض المنارة و الرباط كما يحلو للبعض تسميتها و مربد المليون شاعر عند آخرين و همزة الوصل و هو تعريف له كذلك إيحاءاته و مدلولاته - في الوقت الذي تخلت فيه فرنسا، على سبيل المثال و تقريبا للأذهان التحول الحاصل في مدارك العقول العصرية، عن تسمية باريس "مدينة الأنوار" لما أصبح حولها في العالم من المدن الأكثر إشعاعا و أسطع أنوارا، لا يكاد ذكرها "شنقيط" أيضا فخرا و تمثيلا يتجاوز أروقة نفوس أصحابها و دوائر حوزتهم الانتمائية الضيقة القبلية و الاثنية غالبا و الجهوية نادرا دون أن يكون لذلك مطلقا رجعٌ من الألق على نسيج البلد و صبغةٌ حضارية على عموم محيطه و قوة تدعم رفعته. و هو الأمر الذي يضيء جوانب هامة مما هو حاصل من اختلال موازين الاعتبار و الأولويات في سياق معركة الرقي الفكري و التحضر في دائرة المدنية الحديثة بما تكفله من النماء و التقدم... معركة حامية الوطيس لا تمهل غير المسلحين فيها بالهمة العالية و القادرين بجدارة و عزم و حزم و شدة على وضع مخططات رصينة للأولويات والمتمتعين بطول نفس و صرامة لمتابعة تنفيذها.
    
أكثرُ عُدمًا و أقل حيلة من شاعر و كاتب و ناقد في هذا البلد، لم تراه قط عين... و لم تلد النساءُ أقل حظا و اعتبارا و أبعد تبوءً لكراسي سامية أو تقلد لمناصب متقدمة في هرم التسيير و قواعد التوجيه في الحكم من جامعيين مستوفين مقامات العلوم العصرية التي ضلعوا في اقتنائها و تحصيلها و من فقهاء و مجتهدين و مجددين و مبتكرين و مخترعين و منظرين في شتى دروب المعارف العلمية و التوجيهية و التأطيرية في دائرة التوازنات العقائدية و النفسية و الخلقية و الإنشائية... و الأكثر غرابة هو ما يتنعم به من حولهم و يرفل في خمائل حريره السماسرة و المرجفون و الوصوليون و باعة الرياء و الخواء المعرفي و الروحي من ريع الدولة المادي و مقدراتها الاقتصادية و تسهيلاتها في دائرة تسيير كل مُدخلاتها و مُخرجاتها لصالح سوء منقلب أخلاقي و تدهور قيمي للأسبقية المعرفية ما لم تعد تخطئه عين و واقع الحال مدوي الصرخة يقول على لسان نزار قباني :
في عصر الكاز يطلب شاعر    ثوبا.. و ترفل بالحرير قحاب
إنها وضعية لا يضاهيها في غرابتها و تفردها سوى ما يبدو عليه كل هؤلاء المغلوبين على أمرهم من علامات الرضى المشبوه عن هذا الواقع المر المتسم بقلة الحيلة و ضعف الوضعية المادية، اللائقة على الأقل بالمظهر و في شكل الحضور، و دون إظهار أية علامة من علامات التململ أو الاستياء تؤشر على نية أو عزم مبيت للسعي إلى قلب الأمور باتجاه الوضعية الطبيعية و الحالة الصحية الاعتيادية المفتقدة و كأن لسان حال الشاعر المتنبي و حكمة بيت قصيده في مثل حالهم قد أبانا و وقعا على وضعية البؤس التي ينعمون فيها منتشين بخمرة عقدة الاستعلائية الملازمة لضعفهٍم و بمنتهى سعادة الخب مُحيٍين، مُفعمين بعفن اختلال الموازين و لا يشعرون، غيابَ معنى الحياة من حولهم، كما يقع الحافر على الحافر؛ بيت شعر ناطق كذلك بمرارتهم التي أدمنوا و كأنه وصف لحالهم  دون
الذين قيل فيهم قبلهم :
 
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله    و أخو الجهالة في الشقاء منعم (المتنبي)
 
و إنه مما لا شك فيه أن هذه الوضعية باتت تدعو إلى تمام الريبة في أن هؤلاء المتفردين في المجتمع،
 بالمعارف و الآداب التي حصلوها و بالمواهب التي تطورت لديهم و صقلوها، لا يزالون يتميزون في تناقض محير بأقل قدر من بيان المنطق  و سحر فاعليته الذي كان حريا به أن يجعلهم يدركون أنهم عصارة المجتمع ونبضه و رايته و نبراسه الذي يستضيء به وسط بؤر الوجود المظلمة و أن يستلهموا معاني النخبة المثقفة و الواعية لأنها في أي مجتمع، هي المجموعة المشتغلة بالثقافة والعلم، والحاملة للمشاريع الفكرية والمعرفية لذلك المجتمع، بوصفها النواة والعقل المفكر لذلك المجتمع، و أنها عادة ما تكون المسؤولة عن التخطيط للمستقبل واستشرافه، من خلال وضع الإستراتيجيات المناسبة لضمان تطوره، وخلق الوعي بين أفراده، بما ينبغي القيام به من أجل التحكم في مصائرهم من خلال الانخراط السليم في المشاريع المجتمعية، باعتبار النخبة المثقفة هي حاملة المشاريع الحضارية للشعوب والأمم، لما تملكه من تصور وفهم للواقع الاجتماعي الذي تعيش فيه، ورؤية عميقة للعالم .
 
و لما لم يكن الأمر كذلك فإن واقع البلد يشهد في بعديه الحضاري و الإنساني من ناحية و التقدمي و العصري من جهة أخرى انحسارا خطيرا و ارتماء عشوائيا في غياهب جب مجاهيل غَدٍ الله وحده أعلمُ بما تنطوي عليه من مخاطر الضياع و سوء المنقلب قبل الزوال.
و في انتظار أن يصل الأمر إلى ذلك الحد فإن معالم البلد تتآكل بفعل عوامل التعرية من قيم الدولة العملية و انتشار طبقات جديدة قديمة من مستنزفي الخيرات الذين لا يحملون الوطن في قلوبهم بل في جيوبهم لا مبالين بعواقب هذا الاستنزاف يدفعهم إلى ذلك غياب وازعي الدين و الوطنية و يحرضهم اثنان أولهما "و أن ليس لك إلا اللحظة التي أنت فيها" و ثانيهما "أنا و من بعدي الطوفان".
 
فهل تستفيق النخبة من طول سكرها و تعي ذلك الواقع الذي غيبها قبل فوات الأوان فتمهد بالحس التنويري الدفين الرابض بداخلها لمسار جديد تسلكه الأمة على هديها إلى بر الأمان و تشكل منطلقا لوعي جديد، إن لم تفلح سريعا في بعثه من رماد ما أحرقوا من المبادئ و القيم و محصلات العلم التي تراكمت عندهم طيلة عقود من أعمارهم، أفراد نخبة منكسرة الجناح، خائرة العزائم، استعلائية بغير ما هندام و أدعائية في غير ما عطاء، جعلوا كل ذلك هباء منثورا ثم غلبت عليهم مساوئ النرجسية السلبية و رواسب من إملاءات الماضي و اعتباراته الضيقة، فلا سبيل عندئذ إلا إلى التحسب لمرحلة من الانتكاس الذين هم أول من سيصطلي بنارها و يصبح دون أدنى شك و بالنتيجة الحتمية أيضا أولى ضحاياها لأنه، عود على بدء، هو من أوجدها.