تواصل واللغة العربية ...هل من توبة؟

اثنين, 2023-09-04 20:03

هذه جملة من التوضيحات التي لابد من تقديمها تمهيدا لهذا المقال:
1 ـ سيتحدث هذا المقال عن تقصير الإسلاميين في موريتانيا في الدفاع عن اللغة العربية، على المستوى المؤسسي فقط، وليس على مستوى الأفراد ولا على مستوى العمل الجمعوي، فعلى مستوى الأفراد فهناك شخصيات من التيار الإسلامي (ومن تواصل تحديدا) لا يمكن المزايدة عليها في مجال الدفاع عن اللغة العربية، ويكفي أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر : النائبين السابقين محمد غلام الحاج الشيخ، والصوفي ولد الشيباني، والشيخ القطب محمد مولود، والنقابي محمدن ولد الرباني، والدكتور عبد الله بيان وغيرهم، وعلى مستوى العمل الجمعوي فهناك أيضا مؤسسات محسوبة على التيار الإسلامي خدمت اللغة العربية في هذه البلاد بما لم تخدمها به مؤسسة جمعوية أخرى، ويكفي أن نذكر  كمثال :" معهد تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، و نشر العلوم الإسلامية في موريتانيا"؛
2 ـ التقصير المقصود هنا هو التقصير الخاص بالواجهة السياسية للإسلاميين، أي تقصير حزب تواصل على مستوى خطابه الرسمي، وبياناته السياسية، وتصريحات رؤسائه، ومداخلات نوابه في البرلمان.. ومقصود به كذلك تقصير المؤسسات الإعلامية المحسوبة على التيار، وكذلك كتابات بعض من يمثلون الواجهة الإعلامية للتيار الإسلامي في مواقع التواصل الاجتماعي؛
3 ـ ما نتحدث عنه هنا من تقصير لحزب تواصل لا يقتصر فقط على حزب تواصل، وإنما يشمل كل المعارضة الحزبية في موريتانيا منذ تأسست في بداية التسعينيات من القرن الماضي، وحتى اليوم، وإن كان هناك من استثناءات فيمكن أن نتحدث بتحفظ شديد جدا جدا عن التحالف الشعبي التقدمي، وبدون تحفظ عن حزب الصواب؛
4 ـ ما سيقال عن حزب تواصل في هذا المقال ينطبق تماما ـ وربما بشكل أوضح ـ على بقية أحزاب المعارضة، وخاصة حزبي التكتل واتحاد قوى التقدم. أما السبب في التركيز على حزب تواصل دون غيره، فيعود أساسا إلى أن حزب تواصل هو الحزب الذي كان يُتوقع منه أكثر من غيره أن يكون في الصف الأول في الدفاع عن العربية، وذلك لخلفيته الإسلامية، فالعربية ـ وكما هو معلوم ـ هي لغة القرآن ووعاء الشريعة الإسلامية، ولا يمكن الاهتمام بالإسلام دون الاهتمام باللغة العربية، ثم إنه هو الحزب الأكثر تضررا من تهميش اللغة العربية، فأغلب منتسبيه تعلموا باللغة العربية، هذا فضلا عن كونه هو الحزب المعارض الأكثر حضورا على المستويين السياسي والإعلامي خلال السنوات الأخيرة.
نظرا لكل ذلك فقد كان من المفترض أن يحمل حزب تواصل لواء الدفاع عن اللغة العربية في موريتانيا، وأن يكون في الصف الأمامي في الدعوة للتمكين لها في هذه البلاد، فإذا به ينافس بعض الأحزاب التي لم يكن منتظرا منها أن تدافع عن اللغة العربية، ينافسها على تصدر لائحة الأحزاب الأكثر خذلانا للغة العربية في موريتانيا.
تلكم كانت توضيحات لابد من تقديمها، وبعد تقديمها، دعونا ندخل الآن في صلب الموضوع.
تواصل وخذلان اللغة العربية
لا أذكر لحزب تواصل منذ أن تأسس وحتى اليوم بيانا سياسيا واحدا ينتصر فيه بوضوح لا لبس فيه للغة العربية، أو يندد فيه بتهميشها في الإدارة، ولا أذكر لأي رئيس من رؤسائه الثلاثة موقفا واضحا أو تصريحا قويا يندد فيه بهيمنة اللغة الفرنسية في الإدارة الموريتانية، ولا أذكر أيضا أن أي نائب من نواب الحزب تقدم بطرح سؤال شفهي أو كتابي بخصوص عدم تفعيل المادة السادسة من الدستور الموريتاني.
اللافت في الأمر أن نواب المعارضة، وعلى رأسهم نواب حزب تواصل، وفي ذروة معارضتهم للنظام السابق، لم يسجل لأي واحد منهم موقفا صريحا وقويا لصالح اللغة العربية، واللافت أكثر أن الانتصار للغة العربية والغضب من الحكومة بهذا الخصوص كان يأتي من بعض نواب الحزب الحاكم، ولعلكم تذكرون تمزيق النائب السابق الخليل ولد الطيب ـ والذي لا يمكن التشكيك في موالاته ـ  لتقرير صادر عن اللجنة الاقتصادية والمالية بالجمعية الوطنية، وذلك لأن التقرير قدم له باللغة الفرنسية فقط، وحتى من دون ترجمة إلى اللغة الرسمية للجمهورية الإسلامية الموريتانية. هناك أمثلة أخرى قام بها نواب محسوبون على الأغلبية لصالح اللغة العربية، وذلك في وقت تقاعس فيه نواب المعارضة عن القيام بأي فعل يمكن أن يصنف على أنه يشكل انتصارا جديا للغة العربية.
تعودنا من المعارضة الموريتانية عموما، ومن حزب تواصل خصوصا، أن تقف ـ وبقوة ـ ضد كل أشكال التقصير في العمل الحكومي، وأن تنتصر للدستور كلما كانت هناك محاولة صريحة أو خجولة من طرف الأنظمة المتعاقبة لانتهاك إحدى مواده. هذا الوقوف ضد التقصير في العمل الحكومي تستثني منه المعارضة دائما التقصير في حق اللغة الرسمية (اللغة العربية)، وهذا الانتصار لمواد الدستور تستثنى منه المعارضة دائما مادة واحدة، وهي المادة السادسة، والتي نصت على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للجمهورية الإسلامية الموريتانية.
لم يكتف تواصل بعدم الدفاع عن اللغة العربية، بل إنه أضاف إلى ذلك أنه كان يشارك في إرباك بعض الخطوات الخجولة التي قد تتخذها الأنظمة الحاكمة في أوقات نادرة جدا لصالح اللغة العربية.
لا يملك المدافعون عن بقاء اللغة الفرنسية مسيطرة في الإدارة والتعليم في موريتانيا أي حجة متماسكة، يمكن أن يواجهوا بها المطالبين بتفعيل المادة السادسة من الدستور الموريتاني، ولعل أقوى الحجج لديهم هي أن اللغة الفرنسية لغة تواصل على المستوى العالمي، كما أنها لغة تواصل لبعض المكونات الموريتانية مع امتداداتها في بعض دول إفريقيا السوداء. هذه الحجة لم تعد لتقنع أحدا، فالفرنسية كلغة عالمية في تراجع، وهي اليوم في الرتبة التاسعة عالميا من حيث الاستخدام، في حين أن اللغة العربية تأتي في الرتبة الرابعة عالميا، وعلى مستوى إفريقيا فإن اللغة العربية تنافس على الرتبة الأولى، بينما تحتل الفرنسية الرتبة الرابعة بعد العربية والانجليزية والسواحلية.
هذا عن الحاضر، أما عن المستقبل، فإن كل المؤشرات تقول بأن مكانة اللغة الفرنسية ستظل في تراجع كبير، وخصوصا في إفريقيا السوداء بعد ظهور أجيال جديدة لا تخفي بغضها الشديد لفرنسا، ولكل ما له صلة بها، بما في ذلك اللغة الفرنسية، والتي كان يجب أن تبقى بعيدة عن الصراع السياسي.
يدرك المدافعون عن بقاء اللغة الفرنسية مسيطرة في الإدارة والتعليم أنهم لا يملكون أي حجة متماسكة، ولذا فهم يلجؤون دائما إلى أساليب في منتهى الخبث، وهي الوقوف أمام أي خطوة قد تتخذ لصالح اللغة العربية عن طريق العمل على خلق صدام عرقي غير مبرر لتوقيف تلك الخطوة. وهذا الصدام غالبا ما تكون خلفه فرنسا، وقد أشار إلى ذلك الرئيس الراحل المختار ولد داداه في مذكراته، عندما تحدث عن أول صدام عرقي في موريتانيا وكان في العام 1966، وقد تسبب في وفاة 6 أشخاص وجرح 70 آخرين، وكان بسبب رفض بعض التلاميذ الزنوج لقانون صادر عن الجمعية الوطنية يقضي بإلزامية تدريس اللغة العربية إلى جنب اللغة الفرنسية في المرحلة الثانوية.
في العام 2010، واستجابة لقرار المجلس التنفيذي للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بتخليد يوم اللغة العربية (1 مارس 2010) تحت شعار" اللغة العربية لغة ديننا وهويتنا"، قررت الحكومة الموريتانية أن تخلد ذلك اليوم بأسبوع، وأن ترفع في الوقت نفسه من شأن اللغة العربية في موريتانيا.
على هامش حفل انطلاق الأنشطة المخلدة لذلك اليوم طالب صحفي فرانكفوني من الوزير الأول ترجمة حديثه إلى اللغة الفرنسية، فرفض الوزير الأول الترجمة وذكر بأن اللغة العربية هي اللغة الرسمية لموريتانيا، وأنه على الجميع أن يتصرف وفق ذلك. تحرك بعض الطلاب الزنوج، وحدثت حينها صدامات عرقية، انحازت فيها أحزاب المعارضة ـ بشكل أو بآخر ـ للمحتجين، وأطلق حزب تواصل حملة "هو سماكم المسلمين"، وهي الحملة التي أشاد بها المجلس الوطني للحزب في بيان تم نشره في يوم 22 ـ 05 ـ 2010، طالب فيه الحزب بإعطاء اللغة العربية مكانتها المستحقة في الإدارة والتعليم، وطالب كذلك بتطوير وترسيم اللغات الوطنية. أما اللغات الأجنبية، فتكتسي أهميتها ـ حسب بيان الحزب ـ من ضرورة التواصل والانفتاح على العالم.  يعني كل اللغات مهمة، ويجب الاهتمام بها جميعا، هذا هو ما أوحت به الفقرة الخاصة باللغة في بيان الحزب.
ما حدث بعد ذلك معروف، فقد اعتذر وزير التعليم العالي أحمد باهية باسم الحكومة للطلاب الزنوج، في سابقة من نوعها، وأكد أن الحكومة ليست بصدد فرض تعريب شامل في الإدارة والتعليم، وأن الفرنسية ستبقى لُـغة التواصل في الإدارة الموريتانية، ولا جديد يدفع الطلبة الزنوج إلى القلق على مستقبلهم. هذا الاعتذار الذي يشكل إساءة صريحة للدستور الموريتاني نددت به بعض الأحزاب، ولم يكن من بين الأحزاب المنددة به حزب تواصل.  
 لم يتوقف الأمر عند ذلك، فقد تراجعت الحكومة في السنوات الموالية عن تخليد يوم اللغة العربية بحضور الوزير الأول، وأصبح يُكتفى بموظف من الدرجة الثانية من وزارة الثقافة، يحضر لنشاط متواضع يمتد لساعة أو ساعتين في قاعة بالمتحف الوطني أو بدار الشباب القديمة، في حين أن يوم الفرنسية ظل يخلد دائما بأسبوع كامل وحافل بالأنشطة، وبحضور عدد كبير من الوزراء، وفي أفخر القاعات، وبرعاية ودعم من كبريات المؤسسات والشركات العامة والخاصة. 
لم يندد أي حزب معارض بهذا الاختلال البين في تخليد الحكومة ليومي اللغة العربية واللغة الفرنسية، وقد تعودنا من أحزاب المعارضة، وعلى رأسها حزب تواصل، أن تبقى على الصامت في ظل الاختلال القائم والذي هو لصالح اللغة الفرنسية. أما إذا ما حاولت الحكومة أن تقوم بخطوة ولو بسيطة لصالح اللغة العربية، فالذي يحدث بعد ذلك معروف وهو محاولة خلق صدامات عرقية لإفشال تلك الخطوة، وغالبا ما توفر المعارضة الغطاء السياسي والإعلامي لمن يفجر تلك الصدامات العرقية.
هناك أمثلة أخرى كثيرة، كان يمكن أن نستعرضها هنا، ولكن نظرا لتجاوز المقال للمساحة المخصصة له، فسيتم تأجيل تلك الأمثلة إلى مناسبة أخرى، أما الآن، فسننتقل للفقرة الأخيرة والأهم في هذا المقال.
كيف يتوب تواصل من ذنب التقصير في حق اللغة العربية؟
لابد أن أبين هنا بأني لا أتحدث عن التوبة من منطلق ديني، وأنا لستُ أهلا للحديث عنها من ذلك المنطلق، وإنما أتحدث عنها من منطلق سياسي بحت، والتوبة المقصودة هنا هي توبة سياسية من ذنب التقصير في حق اللغة العربية، وشروط قبول هذه التوبة السياسية تتمثل في:
1 ـ أن يضيف حزب تواصل مطلب تفعيل المادة السادسة من الدستور الموريتاني ضمن أولوية أولياته، وأن يجعل من أي تقصير للحكومة في هذا المجال موضوعا من مواضيع انتقاده للحكومة، وأن يعبر عن ذلك ـ وبشكل صريح وفصيح ـ من خلال بياناته السياسية، وتصريحات رئيسه وكبار القادة في الحزب، وكذلك من خلال مداخلات نوابه في الجمعية الوطنية؛
2 ـ أن لا يمنح الحزب أي غطاء سياسي أو إعلامي لأي جهة تسعى للوقوف ضد التمكين للغة العربية في موريتانيا من خلال إشعال صدامات عرقية تكون في الغالب بدعم خفي من فرنسا، وهو ما أشار إليه الرئيس الراحل المختار ولد داداه عند حديثه عن أول صدامات عرقية في موريتانيا، وكانت من أجل تعطيل القانون الصادر من الجمعية الوطنية، والقاضي بإلزامية تدريس اللغة العربية في الثانوية بجانب اللغة الفرنسية؛
3 ـ  أن يطلق الحزب حملة تحت شعار : " بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ " يبين فيها لقواعده الجماهيرية أن اللغة العربية ليست لغة قوم، وإنما هي لغة دين، ولغة الأمة الإسلامية، ولذا فعلى كل مسلم أن يسعى لتعلمها للتمكن من تلاوة القرآن وتعلم ما يلزم تعلمه من علوم شرعية؛
4 ـ أن يُظهر مدونو الحزب اهتماما أكبر بالدفاع عن اللغة العربية، وذلك لتصحيح الصورة المترسخة لدى الكثيرين في مواقع التواصل الاجتماعي، والتي قد تعطي الانطباع أن الواجهة الإعلامية للحزب في مواقع التواصل الاجتماعي غير متحمسة للدفاع عن اللغة العربية؛
5 ـ أن تستغل قيادة الحزب اللقاءات التي قد تجريها مع السفير الفرنسي في نواكشوط لفتح ملف اللغة، ولإشعاره بأن بلادنا تمتلك الحق في السيادة اللغوية، ومن مصلحة فرنسا أن تكون اللغة الفرنسية هي اللغة الأجنبية الأولى في موريتانيا تدرس في كل مراحل التعليم، ودون أن تحتل مساحة ليست من حقها في الإدارة أو التعليم على حساب لغتنا الرسمية (اللغة العربية)، واستمرار فرنسا في محاولة انتزاع مساحة للغة الفرنسية على حساب لغاتنا الرسمية ولغاتنا الوطنية سيؤدي مع الوقت إلى خلق عداء ضد اللغة الفرنسية ( واللغات ليست محل عداء)، وإلى تزايد الأصوات المطالبة بالتخلي عن اللغة الفرنسية بصفتها لغة أجنبية أولـى، وإبدالها باللغة الإنجليزية، والتي تعتبر اليوم هي اللغة العالمية الأولى.
 حفظ الله موريتانيا..
محمد الأمين الفاضل
[email protected]