الذهب السام في موريتانيا... الزئبق والسيانيد يفتكان بالعمال والسكان بمناطق التعدين

رسالة الخطأ

Deprecated function: preg_match(): Passing null to parameter #2 ($subject) of type string is deprecated in rename_admin_paths_url_outbound_alter() (line 82 of /home/amicinf1/public_html/sites/all/modules/rename_admin_paths/rename_admin_paths.module).
ثلاثاء, 2025-07-22 09:32

يكشف التحقيق كيف تلوثت مواقع التعدين الموريتانية بعنصر الزئبق ومركب السيانيد السامين المستخدَمين في استخلاص الذهب، ما تسبب في إصابة العمال بأمراض مزمنة وامتدت آثاره لسكان المناطق المجاورة في ظل رقابة حكومية ضعيفة.

- عندما يخلد الخمسيني الموريتاني عثمان ولد سيدي إلى النوم، تنتابه نوبة سعال قوية، يقول إنها لا تفارقه منذ أن تصاعد نشاط تعدين الذهب قرب مدينة الشامي (تبعد 30 كيلومتراً عن الموقع)، في ولاية داخلة نواذيبو، شمال غربي البلاد.

وسبب هذه النوبة يعود إلى الانبعاثات الملوثة للهواء والمتصاعدة منذ عام 2016، كما يقول الخبير ورئيس منظمة العمل من أجل البيئة (غير حكومية)، أحمد فال بوموزونه، مستنداً إلى دراسة "الأثر البيئي للمواد الكيماوية في مدينة الشامي خلال عام 2018"، قائلاً لـ"العربي الجديد"، إن مواطنين في المدينة يبيعون ما يصل إلى 200 كيلوغرام من مادة السيانيد يومياً، لتستخدم إلى جانب عنصر الزئبق في استخلاص الذهب، ما يتسبب بإطلاق مركبات سامة في الهواء وتلويث خطير للتربة، بحسب إفادة الطبيب بالمركز الوطني للأنكولوجيا (مؤسسة متخصصة في علاج الأورام)، صو محمد الأمين، الذي يربط بين أثر تلك المواد والأمراض التنفسية الحادة في المنطقة.

وتبلغ "نسبة أمراض الجهاز التنفسي، مثل الربو والتهاب الرئة المزمن، 70% من بين الحالات المسجلة في المراكز الصحية في مدينة الشامي"، وفق ما يؤكده رئيس منظمة SENROM لحماية البيئة (غير حكومية)، سيد محمد الطالب أعمر، معتمداً على مصادره الطبية في مشافي المدينة، ويمكن قراءة البيانات السابقة في ضوء أن الالتهاب الرئوي يعد السبب الثاني من بين خمسين سبب للوفاة بمعدل 84.48 حالة لكل 100 ألف نسمة في موريتانيا، بإجمالي 2.756 حالة وفاة سنوياً، أي ما نسبته 11.66% من بين عدد الوفيات، إذ يُضعف تلوث الهواء قدرة الجهاز المناعي على مكافحة التهابات الجهاز التنفسي، بحسب بيانات منظمة الصحة العالمية لعام 2020.

 

كيف نمت الهشاشة البيئية؟

يساهم التعدين في نمو التأثير المناخي السلبي، كما يوضح الخبير البيئي محمد عينين أحمد، رئيس الجمعية الموريتانية للسلامة والصحة المهنية والمحافظة على البيئة (غير حكومية)، مشيراً إلى أن تقرير "الإبلاغ الوطني الرابع عن التغير المناخي في موريتانيا" الصادر عن وزارة البيئة والتنمية المستدامة في يوليو/ تموز 2019، صنف مناطق الشمال الموريتاني باعتبارها من "المواقع الساخنة بيئياً"، نظراً لتزايد الهشاشة المناخية فيها، وارتفاع مخاطر التصحر وتدهور الغطاء النباتي واستنزاف الموارد المائية، موضحاً أن بيئة السكان المعتمدين على التنمية الحيوانيّة والزراعية تتأثر بالتعدين، حيث يجري تدمير الغطاء النباتي وتقل المياه، الأمر الذي يدفع البعض للهجرة، كما هو حال بعض سكان مقاطعة تازيازت، شمالي البلاد، الذين انتقلوا للعيش في مناطق أخرى.

 

وتنشط في تازيازت والشامي مصانع الذهب وعمليات التعدين الحرفي (استخراج الذهب باستخدام وسائل يدوية)، بحسب عينين أحمد، الذي أشار إلى أن "عملية تصفية وتنقية الذهب باستخدام السيانيد خطيرة بيئياً، إذ تتبخر المادة في الهواء، وتنتقل إلى التربة بفعل الرياح"، إلى جانب تلويث التربة بالزئبق، وهو ما أكدته دراسات أجريت في المنطقة في عامي 2021 و2024، من بينها ما جاء بعنوان "محتوى الزئبق وتعدين الذهب الحرفي: حالة تعدين الشامي في النظام البيئي البحري في متنزه بانك دارجوين الوطني، موريتانيا"، الصادرة عن المعهد الموريتاني لبحوث المحيطات والصيد (حكومي)، في يونيو/ حزيران 2021، وقد توصلت إلى أن نسبة الزئبق في موقع التعدين الحرفي حيث استخراج الذهب من المناجم من قبل أفراد أو مجموعات صغيرة في مدينة الشامي، بلغت 56.405 مليغراما لكل كيلوغرام من الوزن الجاف (المادة بعد إزالة الرطوبة أو الماء منها)، أي محتوى زئبقي أكبر مئة مرة مقارنة بما تم الكشف عنه في حوض آركين (يمتد على طول 180 كيلومتراً بمحاذاة الساحل الأطلسي شمال نواكشوط)، إذ راوحت قيم المحتوى الزئبقي التي تم قياسها في عينات الرواسب بآركين التي تبعد 70 كيلومتراً عن موقع التعدين في مقاطعة الشامي، ما بين 0.335 و0.503 مليغرام لكل كيلوغرام من الوزن الجاف، وتعتبر هذه النسب أقل من مستوى التأثير المحتمل والذي يصل إلى 1.06 مليغرام لكل كيلوغرام من الوزن الجاف، حسب الدراسة، التي أوضحت أن استخراج ما بين 20 و30 كيلوغراماً من الذهب يحتاج إلى ما يصل لـ200 كيلوغرام من الزئبق.

الصورة

تلوث موقع التعدين في مقاطعة الشامي بعنصر الزئبق السام

تلوث موقع التعدين في مقاطعة الشامي بعنصر الزئبق السام (دراسة محتوى الزئبق وتعدين الذهب الحرفي بالشامي)

ويستخدم المنقبون 73 ألف كيلوغرام من الزئبق سنوياً في مواقع التعدين بالشامي، بحسب تقديرات جمعية التنوع البيئي والثقافي (غير حكومية)، الصادرة في عام 2018، وفق إفادة رئيسة الجمعية ميمونه بنت السالك.

يستخدم المنقبون 73 ألف كيلوغرام من الزئبق سنوياً في مواقع التعدين بالشامي

وفي سبتمبر/ أيلول 2024، أكدت دراسة بعنوان "تقييم مستويات الزئبق الكلية المنبعثة من تعدين الذهب الحرفي في التربة والمياه الجوفية في بلدة الشامي، بموريتانيا"، وأعدها خبراء يابانيون في المعهد الوطني لمرض ميناماتا (المتلازمة العصبية الناجمة عن تسمم الزئبق الحاد)، وكلية الدراسات العليا للعلوم والتكنولوجيا وكلية العلوم والتكنولوجيا المتقدمة والمنظمة الدولية لأبحاث العلوم والتكنولوجيا المتقدمة في جامعة كوماموتو، وقسم هندسة الموارد المستدامة في كلية الدراسات العليا للهندسة بجامعة هوكايدو، وجود صلة قوية بين أنشطة تعدين الذهب الحرفي وارتفاع مستويات الزئبق في عينات التربة، وكشفت أن مستويات الزئبق الكلية في عينات التربة في محيط وسوق مدينة الشامي راوحت بين 0.002 و9.3 أجزاء في المليون، متجاوزةً بكثير الحد المسموح به وهو 5.3 أجزاء في المليون بحسب بروتوكولات السلامة البيئية والصحية.

الصورة

تعاظم الخشية من تسرب العناصر السامة إلى الطبقات الجوفية للتربة

تعاظم الخشية من تسرب العناصر السامة إلى الطبقات الجوفية للتربة (دراسة تقييم مستويات الزئبق الكلية المنبعثة من تعدين الذهب الحرفي بالشامي)

ورغم تأكيد الدراسة عدم تلوث المياه الجوفية بعنصر الزئبق حتى سبتمبر الماضي، كما بينت تحاليل العينات، إلا أن الخشية تتعاظم من تسرب المعدن السام إلى الطبقات الجوفية للتربة، الأمر الذي قد يؤدي إلى تلوث المياه الجوفية، وفق الخبير عينين أحمد.

 

تسمم العاملين

يمثل قطاع التعدين في موريتانيا 24.2% من الناتج المحلي الإجمالي، ويستفيد قرابة 5.5% من السكان بشكل غير مباشر من قطاع التعدين الحرفي، وفق مراجعة الأداء البيئي لموريتانيا المنشورة في موقع لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأوروبا (UNECE)، في الخامس والعشرين من نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، مشيرة إلى أن هذه الأنشطة ضارة بصحة العمال، وكذلك بمن يعيشون بالقرب من المناجم.

24.2 % نسبة قطاع التعدين الموريتاني من الناتج المحلي الإجمالي

ونتجت عن ذلك معاناة نحو 60% من 52 ألف عامل في مناطق التعدين الشمالية (الشامي وتازيازت)، من أعراض صحية مرتبطة بالتعرض للمواد السامة، كالسعال المزمن، والصداع، والدوار، وضعف العضلات، وفق تأكيد رئيس منظمة SENROM لحماية البيئة سيد محمد الطالب أعمر لـ"العربي الجديد"، والذي توصل إلى هذه النسبة من خلال مصادره في وكالة معادن موريتانيا الحكومية. ومن بين المصابين الثلاثيني عبد الله ولد أحمدو، بحسب والدته، التي تحدثت مع معد التحقيق بصوت متهدج عن ضحكات ابنها التي كانت تملأ البيت قبل أن يخفت وهجها شيئاً فشيئاً تحت وطأة مرض غامض بدأ يتسلل إلى جسده أثناء سنوات عمله في موقع التعدين في مقاطعة تازيازت.

"كان ولد أحمدو يعمل ضمن طاقم فني في مصنع معالجة الذهب التابع لشركة تازيازت المحدودة التابعة لشركة كينروس الكندية والتي تستخرج الذهب من منجم تازيازت الذي يبعد 300 كيلومتر عن نواكشوط، وهي منطقة تعرف ببيئتها الصناعية القاسية واستخدام مواد كيميائية خطرة ضمن عمليات الإنتاج، من بينها مادة السيانيد"، وبحسب والدته، بدأ ولد أحمدو يشعر بآلام متكررة في المفاصل وبتنميل في اليدين والساقين في أواخر عام 2019، لكنه لم يتوقف عن العمل، وظل يعزو الأعراض إلى الإرهاق والتعب الجسدي. غير أن حالته بدأت تتدهور تدريجياً، وفقد القدرة على التحكم بأطرافه، وأصيب بشلل نصفي قبل أن يضطر لترك العمل نهائياً في منتصف عام 2020. ثم تكفّلت الأسرة بعلاجه في مراكز خاصة في البلاد، وظل يتردد على الأطباء قبل أن يوافيه الأجل في ديسمبر/ كانون الأول 2023 عن عمر تجاوز بالكاد أربعين عاماً.

الصورة

معاناة العمال من أعراض صحية مرتبطة بالتعرض للمواد السامة

 

معاناة العمال من أعراض صحية مرتبطة بالتعرض للمواد السامة (دراسة محتوى الزئبق وتعدين الذهب الحرفي في الشامي)

ولد أحمدو لم يكن حالة معزولة، فقصته تتكرر مع عمال آخرين، منهم الطالب ولد محفوظ، الذي أصيب بالتهابات صدرية حادة في أثناء عمله في شركة مناجم النحاس الموريتانية MCM الواقعة شمالي موريتانيا والذي كان يعمل في وحدات معالجة المواد الكيماوية، ليلزم الفراش حاليًا في أحد مستشفيات نواكشوط.

ومثله، مبارك فال، الذي نُقل للعلاج في عام 2018، إلى المستشفى الأميركي في باريس، ليعود سنة 2023، ويقيم حاليًا في نواكشوط، إثر إصابته بمضاعفات ناجمة عن استنشاق مادة السيانيد، حين كان عاملاً في شركة إنشيري الشمالية للتعدين SENISA التابعة، لشركة تازيازت، يقول إنه لم يكن يدرك في البداية بما كان يستنشقه، لكن بعد أيام قليلة ظهرت عليه أعراض حادة، مثل ضيق شديد في التنفس وسعال جاف ومستمر، وآلام حادة في الصدر، نتيجة استنشاقه للمواد الكيميائية، حيث كان يتعامل يوميًا مع السيانيد وشُخّص بأنه مصاب بـالالتهاب الرئوي، وهو ما جعله يغادر البلاد للعلاج.

الصورة

يستفيد 5.5% من السكان بشكل غير مباشر من قطاع التعدين الحرفي

 

 

خطر بيئي يتهدد "حوض آركين"

رغم خلو حوض آركين الذي صنفته منظمة اليونسكو ضمن التراث الطبيعي العالمي في سنة 1989 من أهم المحميات البيئية في المنطقة، من المخاطر البيئية حتى نهاية عام 2024، إلا أن احتمالية تلوثه تظل قائمة، وفق الرئيس السابق للمجلس العلمي لحوض آركين، محمد بابا ولد سعيد، وتأكيد دراسة "تقييم مستويات الزئبق الكلية المنبعثة من تعدين الذهب الحرفي الصغير في التربة والمياه الجوفية في بلدة شامي، موريتانيا"، التي كشفت وجود 53 في المائة من بين 233 نوعًا من الطيور تُظهر درجة عالية من الاعتماد على منتزه بانك دارجوين الوطني الذي يقع على طول الساحل الاطلسي، ونظمه البيئية الساحلية والبحرية خلال دورة حياتها. ويوضح ولد سعيد أن الطيور تموت فور ملامستها لمكان تسرب الزئبق، كما يؤدي إلى الوفاة لأي كائن حي يتنفسه، هذه المادة السامة، بحسب ولد سعيد.

 

ولدرء مخاطر تلوث الحوض بالزئبق، وجّه الاتحاد الأوروبي، الذي يعد شريكًا رئيسيًا لموريتانيا في مجال حماية التنوع البيولوجي، في مناسبات سابقة رسائل للسلطات الموريتانية، محذرًا من مخاطر تسرب المواد الكيميائية، خصوصًا السيانيد، إلى محيط المحمية، لما يمثله ذلك من تهديد للأنظمة البيئية البحرية وللتوازن الطبيعي داخل الحظيرة، كما يقول ولد سعيد لـ"العربي الجديد"، مضيفًا أن محمية آركين، تخضع لمراقبة منظمة اليونسكو، لكن إدارة المحمية لم تقم بمسؤولياتها المتمثلة بالرقابة البيئية، وتقييم الأثر البيئي، ما يجعلها أكثر تهديدًا لكونها بالقرب من مناطق تعدين الذهب.

 

من يتحمل المسؤولية؟

تشكل مناطق التطهير أو ما يُعرف تقنياً بـ"أحواض معالجة المياه الصناعية"، وهي منشآت مصممة لإزالة الملوثات من مياه الصرف الناتجة عن العمليات الصناعية المستعملة في شركة تازيازت، خطراً كبيراً على البيئة والصحة كما تقول مصادر التحقيق، ومن بينها الناشط البيئي والخبير البيولوجي محمد سالم باركله، الذي أضاف في حديث لـ"العربي الجديد": "هذه الأحواض لا تحمي من تسرب الزئبق والسيانيد".

إلا أن المهندسة أحلام بنت الشاه، التي تعمل في شركة تازيازت، تنفي ذلك، قائلة لـ"العربي الجديد": "إن تلك العملية تتم بإحكام وتمنع تسرب المواد الكيمائية"، في المقابل، اطلعت وزيرة البيئة والتنمية المستدامة مسعودة بنت بحام ولد محمد لغظف، في فبراير/ شباط 2025، خلال حملة توعوية حول مخاطر المواد الكيماوية المستعملة في التعدين الأهلي وخاصة عنصر الزئبق في مقاطعة الشامي، على مشروع تجريبي للحد من التلوث باستخدام معدات قادرة على استرداد المادة السامة، من خلال أجهزة التقطير لفصل الزئبق عن العناصر الأخرى، من خلال التكثيف خلال عملية الحرق، ما يضمن سلامة العمال والحد من انتشاره في البيئة وإعادة استخدامه في عملية المعالجة، بحسب الموقع الرسمي لوزارة البيئة.

ومع ذلك، يقلل العامل مبارك فال والطالب ولد محفوظ ورفاقهما من فائدة هذا الإجراء، إذ ما زالوا يتعرضون بشكل مباشر ويومي لمخاطر الزئبق والسيانيد، فما يقال شيء بينما ما يجري على الأرض شيء آخر.