
بقلم: عز الدين مصطفى جلولي - كاتب وأستاذ جامعي جزائري - [email protected]
جراحاتنا النازفة
كثيرة هي القضايا التي تشغل بال المسلمين اليوم، فتأخذ من وقتهم كما تأخذ من عافيتهم، ربما لأنها ذات صلة متينة بمصيرهم في الحياة الدنيا وبمصيرهم في الحياة الآخرة كذلك. وإن كان جل ما يعني السواد الأعظم من الناس في هذه التحديات تلكم الآثار المباشرة على حياتهم الفانية.
استقلال البلدان والأمن من المخاطر وتوفر الضروريات المعيشية والحاجية هي محور هذا الاهتمام على العموم، وقلما تلفين في حراك هذه المجتمعات المعاصرة، والتي تنتمي إلى الأمة الإسلامية، ما يرتبط بوظيفتها الوجودية وهي العبودية لله عز وجل؛ ما يعني أن توالد هذه التحديات المستمرة أمامها هو نتيجة تلقائية لذلكم التوجه المتباعد عما يريده الخالق تبارك وتعالى من هذه المخلوقات المكرمة، والمحمولة في البر والبحر، والمرزوقة من الطيبات، والمفضلة على كثير ممن خُلق تفضيلا.
لا يزال العالم الإسلامي قلبه دام ويحمى فيه الوطيس خلال هذه السنوات العجاف، وأهلنا ببلاد الشام على العهد صابرين، وإلى فرج الله تعالى متطلعين. ولعله من تجليات الدعاء النبوي لهذه الربوع العزيزة بالبركة- حينما خصها المصطفى (صلى الله عليه وسلم) بقوله: "اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا"- أن ترى الناس فيها يتحسسون رحمة الله سبحانه وهم تحت القصف، ويستمتعون بالحياة الجميلة فيها وبلادهم تحتل، غير مبالين بالتضحيات، لأنهم يرونها أثمانا مقسطة تدفع لغد مشرق سيعيشونه، أو لجنة عرضها السماوات والأرض سيجازون بها؛ فخذ يا رب منا ومنهم حتى ترضى!
إن بلاد الشام كانت ولا تزال مطمعا للغزاة، وما عانته هذه البلاد على أيدي الغزاة الفرنجة وممن حكمها من بعد جلائهم كان فظيعا بكل المقاييس، وحتى إن تمكن السوريون- أعنى أهل السنة والجماعة دعاة العودة إلى الحكم بالإسلام- من استعادة السيطرة على ربوع واسعة منها، إلا أن تحديات جمة تواجه هذه الفئة المنصورة بإذن الله، كالأطماع الصهيونية، والحرود الكردي والدرزي والعلوي عن أن يدين لهذا العهد الجديد.
وهنالك قضايا أخر تشغل بل المسلمين ببلدان واسعة كثيرة، كما في المغرب الإسلامي والأناضول وفي بلاد ما وراء النهرين وفي غيرها. فبعضها له خصوصية بينية يذكيها الاستعمار كي يفتن المسلمين بعضهم ببعض، كما هو الحال في شمال إفريقية، وبعضه تترصده مكايد صليبية كما هو الشأن في تركية وإيران وأفغانستان، وبعضه يقع بفم تنين هندوسي كما في كشمير وباكستان. وكل هذه المواقع مراكز ثقل مهمة تملكها الأمة المسلمة ولا مناص من الدفاع عنها، حتى ولو تولى الحكم فيها ضعاف النفوس من الأمراء. إن مقاربة تلكم الجروح الغائرة من واجبات المسلمين كافة، ولا خيار لهم في المؤازرة والمناصرة مهما اختلفت الآراء وتباينت المذاهب، فـ "من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم".
داء الاستبداد السياسي داء وبيل ولا دواء يستطب به، ومما زاد خبثه ارتهان الحكام فيه لأيديولوجيا لائكية تحارب أحكام الله تعالى أن تعود لتنظم حياة الناس في ديارهم، سبحان الله! حتى أن هؤلاء المجرمين الخونة مدوا أيديهم للكفر يطلبون منه العون والسند كي يبقوا خدما له في الحكم أطول عمر ممكن، ولم يرعو أكثرهم عن أن يلحقه الخزي والعار طوال حياته وحياة عائلته وقومه إن هو فر ذات ليلة هاربا بحقيبته على متن طائرة تقله إلى مثواه الأخير في بلاد الكفر؛ وكذلك فعل الرئيس الهارب ابن علي التونسي ليلا فرفضت نزوله بأرضها حكومات أوروبية، وكذلك فعل المخلوع بشار الأسد عندما تسلل في جنح الظلام إلى حلفائه في موسكو.
واجبات النخب
وفي خضم النظر والنقاش المستمرين مع الإخوة المهتمين بشؤون المسلمين، كانت تعترض طريقنا الحاجة إلى معرفة ما يدور من أحاديث في كواليس السياسة لدى الفاعلين الحقيقيين في هذه الأحداث الجسام، لا يمكن الوصول إليها بسهولة ويسر، لسرية المداولات وتعلقها بواجب التحفظ في مثل هذه الأمور التي تمس بالأمن القومي للبلدان. لكن الأقدار تشاء ألا تخفي التوجهات العامة للسياسيين والتي يمكن رصدها من خلال ما يرشح منها في مقالات المقربين من دوائر الحكم وتصريحاتهم للإعلام، أو من خلال المكايدة السياسية للدول المتناطحة فيما بينها عبر تسريبات من غرف الاستخبارات الدولية شديدة الظلمة؛ فيجد المتتبع لكل ذلك مادة متاحة لا بأس بها يمكن أن يمحصها ويتخير منها لأمته ما ينفعها لتدرك أين تقع مصالحها العليا فلا تغفل عنها.
إن رصد المتغيرات الكبرى التي تنزل بأمتنا على اتساع نطاقها وتعدد دولها - رغم كونها أمة واحدة وتدين بعقيدة واحدة وقبلتها واحدة ورسولها واحد وكتابها واحد - عبادة شرعية، وتتعين هذه العبادة على كل من وجد في نفسه قدرة على الإسهام في ما تحتاج إليه أمتنا من رأي وتوجيه.
إن هذا الزمان الذي انتشرت فيه العدمية وسيطرت على توجهات القوى الكبرى في العالم، حتى أصبح التباهي باستخدام أفتك الأسلحة المدمرة للجنس البشري لغة مستعملة بديلا عن العلاقات الدبلوماسية _ يتطلب من قادة الفكر والرأي تقديم البديل الأمثل للإنسانية، ولا أحسن من التنظير لمبدأ التعاون على البر والتقوى، على الأقل في منظوره الفطري البسيط؛ فالبشرية ما وجدت ليقهر بعضها بعضا، أو لتتفانى في ما بينها، فالعيش بين البشر بسلام أليق عيش وأهنأه.
إن الوحدة الإسلامية فريضة أخرى مغيبة تماما بين الدول الإسلامية، التي لا يتحدث القائمون عليها سوى عن المصلحة المادية المحضة، مبررين ذلك بما تعلموه من علوم سياسية غربية الطابع بأن العلاقات الدولية مبنية على المصلحة. ولا يلتفتون في ميزانهم المادي للمصلحة إلى حيثيات العلاقة التي تجمع تلكم الدول في أبعادها الروحية والتاريخية والثقافية، ليبنى على الشيء مقتضاه بعد ذلك؛ والسبب أن معظم هؤلاء القادة لا يمتلكون ثقافة إسلامية صلبة يرتكزون عليها أو يتحاكمون إليها؛ إذن لألفيتهم يخوضون في سبل التقارب والوحدة، والتعاون على البر والتقوى، وهو ما عنيته بفرضية ذلك عليهم جميعا.
فروق بيننا وبينهم
إن دوائر الغرب التي توجّه سياساته الخارجية، خاصة مع الدول الإسلامية، تعي جيدا أهمية أن تكون دولنا متفرقة متنازعة، كما تعي جيدا خطورة أن تتوحد تلكم الدول فيما بينها أو تتقارب، خطورة تهدد مصالحها وربما وجودها. ثم إنك لا تجد هؤلاء الأعداء التقليديين صريحين في الحديث عن هذه الخلفيات التي تضبط إيقاع حراكم الدولي وهم مجتمعون، إن في الوحدة الأوروبية، أو في حلف شمال الأطلسي، أو بحكم كونهم حضارة واحدة ذات صفات فارقة عما لدى الشرق من مفاهيم متناقضة مع مفاهيمهم في أكثر الأحيان.
وفي مقابل هذا الوعي الغربي بمصالحه الاستراتيجية، تلفي جهلا مطبقا لدى من يتولى الحكم في بلداننا المسلمة بما يجب عمله مع إخوان العقيدة في مواجهة هذا الطغيان المستحكم بقوة وخبث في إرادتنا ومصيرنا. ولئن بدت الحلقة الكيدية مطبقة علينا من الداخل والخارج، فإن فكاكها منوط بوعي شعوبنا بما هو أنفع لها وبما يصلح شأنها، وعي يدفعها تلقائيا إلى تغيير أوضاعها بكل وسيلة تظن فيها خلاصها. لكن هل نلحظ هذا الوعي قائما يفعل فعله في تغيير أوضاعنا المزرية أم ليس بعد؟ الجواب حتى اليوم بالنفي. فأغلب ما يدور في مجتمعاتنا من حوارات لا يرقى إلى مستوى التدبر في وظيفة المسلم في هذه الحياة الدنيا، كمخلوق عاقل آتاه الله أمانة وأمره بأدائها، بل إن طبيعة ما يشغل المسلم اليوم لا يعدو كونه حاجات يومية مادية، كالصحة والتعليم والعيش الكريم، وأن تضمنت مطالبه أرقى من ذلك كالحرية والعدالة الاجتماعية فهي لا تعدو في منظورها الفكري أطروحات غربية الطابع، لا تزال تسيطر على فضائنا الثقافي والإعلامي.
إذن نحن أمام معضلة وعي، ليس من الصعوبة اكتسابه كما أنه ليس من السهولة التحلي به، في حالة تبدو متناقضة إلى حد ما. فما السبيل إلى فك هذه الإشكالية التي إن حُلّت استعادت الأمة مكانتها واستمتعت بحقوقها؟ إن تواني المسلم المعاصر عن الاهتمام بخطاب ربه الأخير إلى البشرية، وعدم أخذه ما فيه بقوة، ومن ثم السير به في الحياة لا يبالي إلا برضا ربه تعالى، يعتبر أس المعضلة التي أصابت الأمة في مقتل، ولا مناص من إصلاح هذه الحال إن أردنا الخروج من هذا الدرك التي تدحرجت إليه أمتنا عبر زمن تخلت فيه تدريجيا عن وظيفتها الرسالية.
إن منهجية العودة إلى الأصول قسمة بين اثنين، بين علماء الأمة خاصة المتخصصين في ميراث النبوة، الواجب عليهم إيصال المعرفة التي تعلموها إلى الناس جميعا؛ وبين عامة المسلمين الذين عليهم واجب التعلم والفهم والتطبيق. وبين ذا وذاك مراتب من المسؤولية والإبداع، الله وحده يعلم مدى خيريتها وسعادتها على المخلوقات كافة. وتبقى الخطوة الأولى في هذا الاتجاه لحظة قدرية صرفة، أعتقد أن الله تعالى سيمنحها لمن علم في قلبه إرادة للفرار إليه، أسأل الله العلي القدير أن يكتبها لنا في هذا الزمان بمنه وكرمه.