
في جلسة اتسمت بنقاشات حادة وتباين واضح في المواقف، صادق البرلمان الموريتاني على ميزانية الدولة لسنة 2026، في خطوة أنهت مسارًا تشريعيًا طغت عليه أسئلة الأولويات الاقتصادية والاجتماعية وحدود الإصلاح المالي.
وبينما قدّمتها الحكومة بوصفها موازنة برامجية إصلاحية تستهدف تعزيز النمو وتحسين الخدمات الأساسية، رأت فيها أحزاب المعارضة امتدادًا لسياسات سابقة لم تنجح، بحسبها، في معالجة اختلالات الاقتصاد ولا في الاستجابة لمطالب المواطنين المعيشية.
وقد عكس هذا التباين في التوصيف عمق الجدل الدائر حول مسار السياسة المالية للدولة في مرحلة تتقاطع فيها رهانات الإصلاح مع ضغوط الواقع الاقتصادي والاجتماعي.
وفي قاعةٍ اعتادت أن تكون مسرحًا للأرقام ومجالا للنقاشات، بدت جلسة إجازة ميزانية موريتانيا لعام 2026 على مستوى البرلمان وكأنها اختبار علني لمعنى السياسة المالية وحدودها بين الوعد والواقع.
ولم يكن التصويت على الميزانية مجرد إجراء نظامي عابر، بل محطة تعكس كيف ترى الدولة نفسها في عام قادم مثقل بالرهانات: نمو اقتصادي متوقع، موارد جديدة من الغاز، وضغط اجتماعي متصاعد لا يرحم الحسابات التبريرية.
وجاءت الميزانية الجديدة في ثوب مختلف هذا العام، ثوب «ميزانية البرامج» التي لم تعد تكتفي بتوزيع الاعتمادات، بل تحاول، نظريًا على الأقل، ربط المال العام بالقطاعات وبالنتائج.
وعكست الأرقام، وهي لغة الميزانيات الأولى، توسعًا ملحوظًا في الحجم العام للإنفاق، وزيادة في الإيرادات، خصوصًا الضريبية، رغم سياق دولي مضطرب. وقد بدا أن الحكومة تراهن على ضبط التوازنات الكبرى: تضخم منخفض، ونمو في حدود 5%، مدفوعًا بالتعدين، والزراعة، وببداية استغلال الغاز البحري.
ويرسم هذا التفاؤل الرسمي صورة اقتصاد يتحرك بثبات، ويستعد لمرحلة جديدة من تنويع الموارد.
لكن خلف هذه الصورة المتفائلة يطفو عجز الميزانية كإشارة تحذير صامتة، ومع أن العجز منحصر في حدود يمكن التحكم فيها، وفق الخطاب الحكومي، فإنه يطرح إشكالية الديمومة: فهل النمو المتوقع كافٍ لسد الفجوة؟ أم أن الدولة تؤجل معالجة اختلالات بنيوية إلى سنوات قادمة؟
وتكتمل ملامح ميزانية 2026 عند بوابة الأرقام، حيث تؤكد الحكومة أن الإطار الجديد للمالية العامة يقوم على منطق الأداء والبرامج، عبر هيكلة الميزانية في 108 برامج موزعة على مختلف القطاعات، بما يفترض أن يسمح بتتبع الأثر الحقيقي للإنفاق العمومي بدل الاكتفاء بحجم الاعتمادات.
وبحسب المعطيات الرسمية، يتوازن مشروع الميزانية في شقي الإيرادات والنفقات عند أكثر من 132.1 مليار أوقية (1 دولار= 39.08 أوقية جديدة)، مسجلاً زيادة تقارب 11% مقارنة بقانون المالية المعدل لسنة 2025، وهو توسع يعكس، وفق الحكومة، إرادة في دعم النمو دون الإخلال بالتوازنات الكبرى.
وتحتل الإيرادات الضريبية موقع الصدارة في تمويل الميزانية، إذ يُنتظر أن تبلغ نحو 85.1 مليار أوقية، بزيادة تناهز 9 مليارات أوقية عن السنة الماضية، في وقت تصر فيه الحكومة على أن هذا الارتفاع تحقق رغم صعوبات السياقين المحلي والدولي، وأنه لا يعكس تشديدًا ضريبيًا بقدر ما يعكس تحسنًا في التحصيل وتوسيعًا للوعاء الجبائي.
أما إجمالي الإيرادات، باستثناء تمويل العجز، فقد قُدّر بأكثر من 128.7 مليار أوقية، أي بزيادة تفوق 11.8 مليار أوقية عن 2025، وهو ما يمنح الدولة هامش حركة أوسع، وإن كان لا يلغي استمرار العجز الذي يُقدَّر بأكثر من 3.3 مليارات أوقية، مقارنة بعجز أقل في السنة السابقة، ما يعكس اتساع الفجوة بين الطموح المالي والقدرة الذاتية على التمويل.
وفي جانب الإنفاق، تظهر محاولة واضحة لضبط النفقات الجارية، التي ارتفعت بشكل محدود إلى 61 مليار أوقية، بزيادة وُصفت بالمعتدلة، في حين اتجهت الحكومة بقوة نحو تعزيز الاستثمار العمومي، إذ خُصص له أكثر من 62 مليار أوقية، بزيادة تقارب 16%، وهو ما يعكس أولوية البنية التحتية والمشاريع الإنتاجية في الرؤية الحكومية.
وتراهن السلطة التنفيذية على أن تترجم هذه الخيارات إلى نتائج ملموسة على مستوى الاقتصاد الكلي، مع توقع نمو بنسبة 5% في 2026، مدفوعًا بانتعاش التعدين، وتحسن الإنتاج الزراعي، والدخول الفعلي في مرحلة استغلال الغاز البحري، الذي يُنظر إليه كرافعة استراتيجية لإعادة تشكيل هيكل الاقتصاد الوطني.
وفي السياق ذاته، تتوقع الحكومة الحفاظ على معدل تضخم دون 2%، معتبرة أن ذلك يعكس نجاح السياسة النقدية، واستقرار أسعار المواد الأساسية، وضبط التوازنات الاقتصادية، وهي مؤشرات تُقدَّم كضمانة لعدم تآكل القدرة الشرائية، وإن كانت محل تشكيك من طرف المعارضة.
وبهذه المعطيات، لا تبدو ميزانية 2026 مجرد وثيقة مالية، بل لوحة أرقام تعكس صراع سرديات: سردية رسمية ترى في الزيادة والنمو والانضباط المالي مؤشرات نجاح، وسردية معارضة تعتبر أن الأرقام، مهما تحسنت، تفقد معناها إذا لم تتحول إلى فرص عمل، وعدالة ضريبية، وتحسن ملموس في حياة المواطن.
وخلال النقاش البرلماني للميزانية، حاول الوزير المكلف بالمالية تقديم الميزانية بوصفها أداة إصلاح لا مجرد جدول حسابي.
وتحدث الوزير عن الشفافية، وربطها بإرادة سياسية واضحة، وعن محاربة الفساد باعتبارها «خيارًا لا رجعة فيه»، مستشهدًا بإنشاء وكالة وطنية متخصصة ومنصات رقابية جديدة؛ كما وسّع النقاش ليشمل قضايا تمس الحياة اليومية: حوادث السير، ومعاشات المتقاعدين، وتحفيز الموظفين، في رسالة مفادها أن الميزانية ليست بعيدة عن هموم المواطن.
وذهبت الأغلبية البرلمانية أبعد في الدفاع، معتبرة أن ميزانية 2026 تكرّس أولويات اجتماعية واضحة، وفي مقدمتها التعليم، مؤكدة تخصيص نسبة معتبرة لهذا القطاع، وتحسين أوضاع المعلمين، الذي قُدِّم كدليل على أن الدولة تراهن على الإنسان قبل البنية.
غير أن هذا الدفاع لم يخلُ من اعتراف ضمني بأن الطريق ما يزال طويلاً، وأن بلوغ المعايير الدولية يتطلب مجهودًا مضاعفًا.
وعلى الضفة الأخرى، لم تكتفِ المعارضة بانتقاد الأرقام، بل طعنت في الفلسفة ذاتها؛ فالمشكلة بالنسبة لها، ليست في حجم الميزانية، بل في عدالتها وجدواها. وربط خطاب المعارضة بين النظام الضريبي والتفاوت الاجتماعي، وبين غياب رؤية واضحة لتشغيل الشباب وتنامي الإحباط.
وفي هذا السرد، تتحول الميزانية إلى عامل ضغط إضافي على الطبقات المتوسطة، بدل أن تكون رافعة أمل.
وكانت المداخلة الأكثر حدة في تدخلات نواب المعارضة، هي مداخلة التشكيك في الدور الحقيقي للبرلمان؛ فحسب هذا المنظور، ما يحدث كل عام هو تمرير آلي لقرارات جاهزة، وليس نقاشاً حقيقياً ولا تعديلاً مؤثراً، وهو ما اعتبره نواب المعارضة أمراً يفرغ المؤسسة التشريعية من جوهرها الرقابي.
وبين خطاب رسمي يَعِد بالإصلاح ومعارضة ترى في الأرقام إعادة إنتاج للاختلالات، تقف ميزانية موريتانيا لعام 2026 كوثيقة سياسية بامتياز، بل مرآة لتوازنات السلطة، واختبار لقدرة الدولة على تحويل الموارد المتزايدة إلى أثر ملموس.
وما بين التفاؤل والحذر، يبقى السؤال مفتوحًا: هل ستكون هذه الميزانية خطوة حقيقية نحو تنمية يشعر بها المواطن، أم مجرد فصل جديد في كتاب الأرقام الذي يقرأه الجميع… ويفهمه كلٌّ بطريقته؟
عبد الله مولود
نواكشوط -«القدس العربي»

.jpg)


